اللغات

المكتبة

موسكيبيديا

معلومات

الابتكارات

الترشيح
العربية

المساجد التاريخية في المملكة: دراسة للأنماط المعمارية


أ.د مشاري عبدالله النعيم
مارس 7, 2019

دراسة الأنماط المعمارية التاريخية في أي منطقة تتطلب أولا تحديد النطاق الجغرافي والمجال الزمني للدراسة، وعندما تغطي الدراسة منطقة شاسعة مثل المملكة العربية السعودية يفترض أن تثير العديد من احتمالات عدم الدخول في التفاصيل التاريخية والمعمارية والإكتفاء بدراسة مسحية مقارنة كمدخل لفهم الشخصيات المختلفة للمساجد التاريخية التي نشأت وتطورت عبر قرون عدة في هذه المنطقة التي تعتبر منبع الرسالة المحمدية وبداية تكون عمارة المسجد على الإطلاق.  نستطيع أن نقول أن النموذج الأول للمسجد المتمثل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ترك أثرا مستمرا على عمارة المسجد في الجزيرة العربية حيث تبدو البساطة والإبتعاد عن الزخرف والتمسك بالمقاييس والأحجام الصغيرة المندمجة في البيئة المبنية المحيطة بالمسجد هي الأساس الذي تطورت عليه المساجد اللاحقة في كافة أجزاء الجزيرة العربية.

تتطلب دراسة المساجد التاريخية في المملكة تطوير منهجية واضحة للمسح الميداني الذي على ضوءه سيتم تصنيف النماذج حسب التوزيع الجغرافي، حيث تطورت طرز عمارة المساجد في كل منطقة حسب العوامل الثقافية والمناخية والطوبوغرافية والتقنية والمواد المحلية المتوفرة لكنها جميعا حافظت على اللغة البسيطة والمتواضعة التي نشأت من عمارة المسجد الأول في المدينة المنورة.  وقد قام مركز التراث العمراني بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ممثلا ببرنامج المساجد التاريخية بإجراء مسوحات أولية للمساجد التاريخية المتبقية ووضع قائمة تشمل 1300 مسجد تقريبا موزعة على كافة مناطق المملكة.  هذه الدراسة تعتبر قراءة معمارية نقدية مبدئية هذا العمل التوثيقي، وقد قام الكاتب بوضع إطار منهجي تم من خلاله تقسيم الطرز المعمارية للمساجد التاريخية في المملكة حسب موقعها الجغرافي وخصوصيتها المناخية والثقافية وأسلوب البناء فيها، وهي كالتالي:

  • الطراز الحجازي ويمكن أن نجده في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف وتتنوع أساليب البناء في هذا الطراز خصوصا بالنسبة لمواد البناء (الحجر المنقبي في جدة والحجز والطين في باقي المدن) لكنها تتفق جميعا في استخدام “الروشان”أوالمشربية في الواجهات وبكثافة.

مسجد معمار – جدة

  • طراز ساحل البحر الأحمر ويمكن أن نجده في ينبع وضبا والوجه وحتى في جدة وهو طراز يتميز بإستخدام الروشان وهو قريب جدا من الطراز الحجازي بإختلافات في بعض التفاصيل.

مسجد السنوسي – ينبع

  • الطراز التهامي ويوجد في قرى تهامة من الطائف وحتى جازان. ويتميز هذا الطراز بعمارته الحجرية المتعددة الطوابق وفي جيزان يوجد عمارة تعتمد على القش وأغصان الشجر “العريش”.

مسجد عبد الله بن عباس – الطائف

  • طراز جبال السروات ويوجد في العديد من القرى الجبلية في الطائف والباحة والعسير وجازان. وهو طراز يعتمد على الحجارة في مواد البناء وقريب من الطراز التهامي لكنه يتميز بنوع حجارته.

مسجد الكوع – الطائف

  • الطراز الصحراوي الجنوبي ويوجد في نجران وظهران الجنوب. وهو طراز يعتمد على مادة الطين والمباني متعددة الطوابق.

مسجد الحوزة – محافظة ظهران الجنوب

  • الطراز العسيري (ظل المطر) ويوجد في أبها والمناطق المجاورة لها. ويعتمد على الطين المحمي بقطع الحجارة الأفقية الممتدة على واجهات المباني “الرقف” لحماية الطين من المطر.

مسجد مركز طبب التاريخي – ( عسير) شمال مدينة أبها 

  • الطراز النجدي منطقة الرياض والقصيم وحائل. وهو طراز له خصائصه البصرية المميزة ويعتمد على مادة الطين وفي حائل عادة ما يكون الطين مختلط بالحجارة البركانية الصغيرة الناشئة من الحرات المنتشرة في المنطقة.

 مسجد الظويهرة – الدرعية 

  • الطرازالأحسائي ويوجد في الأحساء والساحل الشرقي. وهو طراز له ميزاته البصرية والزخرفية ويعتمد على الطين والحجر الكلسي.

مسجد الفوقي – الأحساء

  • طراز ساحل الخليج العربي ويمكن أن نجده في القطيف والجبيل والدمام والخبر. وهو قريب من الطرز المنتشرة في الخليج العرب ويستخدم “الفاروش” أحجار البحر والحجز الكلسي.
  • الطراز الشمالي ويوجد في الجوف وتبوك. وهو طراز متنوع ويستخدم فيه الطين والحجر.

مسجد عمر بن الخطاب – دومة الجندل

هذه الطرز هي محاولة أولية لتصنيف المساجد في المملكة (والعمارة التقليدية وبشكل عام) وفهم أنماطها وتطوراتها وهو في الحقيقة تصنيف قابل للتطوير المستقبلي، وإذا ما أردنا أن نعمل بشكل أدق على رصد عمارة المساجد ومسار تطورها خلال الأربعة عشر قرنا الأخيرة نحتاج في المستقبل إلى إعادة تصنيف المساجد حسب هذه الطرز.  وبشكل عام يجب أن نضع في اعتبارنا أن المساجد التاريخية وإن كانت “تحدارية” تتوارث عناصرها وتقنياتها بشكل منتظم إلا أن هناك فروقات بين المساجد المبكرة والمساجد المتأخرة خصوصا إذا ما عرفنا أن المسح الأولى شمل المساجد المتاحة منذ فجر الإسلام وحتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين ونعتقد أن كثير من المساجد التي بنيت في وقت مبكر إعيد بنائها عدة مرات ولكن بفروقات بسيطة جدا عن نموذجها الأصلي.

 عناصر المساجد التاريخية: قراءة مقارنة

يجب الإشارة هنا إلى أن العناصر الاساسية للمساجد المبكرة ظلت تميز عمارة المسجد في أغلب أنحاء الجزيرة العربية، مثل التعريشة التي تغطي الجزء المحاذي لجدار القبلة والمفتوحة عادة على صحن المسجد، والصفة وهي تعريشة أخرى في نهاية المسجد، والتي تحولت في بعض الأحيان إلى رواق يحيط بالصحن، وبينهما فناء مفتوح للسماء (الصحن)، ولم يكن هناك مئذنة أو قبب في المسجد وحتى المحراب كان عبارة عن موضع في المسجد وكذلك المنبر.  ولو حاولنا فهم مجمل العناصر التي تتكون منها المساجد التاريخية سوف نجد أنها حافظت على نفس النمط مع تطورات طفيفة حدثت عبر الزمن.  وسوف نقوم هنا بتناول عناصر المساجد التاريخية بشكل مقارن حسب الطرز التي وضعناها في مقدمة هذا المقال:

الكتلة والمحيط العمراني

المساجد التاريخية في كافة مدن وبلدان المملكة غالبا ما تكون مندمجة مع المحيط العمراني ومن النادر أن نجد مساجد مستقلة عن هذا المحيط، وفي الأصل يكون المسجد هو بداية هذه التجمعات العمرانية ويشكل مركزها. يمكن مشاهدة هذا في بلدة الخبراء في القصيم وفي أغلب القرى في جنوب المملكة وشمالها، وقد يختلف الوضع عنما تكون المساجد في المدن الأكبر حجما إذ غالبا ما تكون هذه المساجد ذات طابع تراتبي حيث يوجد مسجد رئيس للجمعة في البلدة كما توجد مساجد صغيرة متعددة للصلوات الخمس داخل الحارات.  وأحيانا عندما تكون المدن متعددة الحارات السكنية يكون هناك مسجد للجمعة في كل حارة تحيط به المساجد الصغيرة التي تخدم مجموعات سكانية داخل الحارات السكنية ويمكن مشاهدة ذلك في مدينة الهفوف في الأحساء في شرق المملكة العربية السعودية حيث توجد مساجد جمعة في الحارات الرئيسية مثل مسجد الجبري في الكوت ومسجد الإمام فيصل بن تركي في حي النعاثل. وفي جدة مثل مسجد الشافعي ومسجد المعماروجميعها مندمجة مع المحيط العمراني ولا يمكن تميزها إلا بمئاذنها.

مسجد الشافعي – جدة

ورغم أن هذا التوجه هو السائد في المساجد التاريخية حتى في مسجد رسول الله في المدينة إلا أنه بدأت تظهر بعض الإستثنائات في الفترات العثمانية المختلفة ففي مطلع القرن السابع عشر تقريبا نجد مسجد القبة (علي باشا) في الأحساء بطرازه السلجوقي الأناضولي الذي يبدو وكأنه شبه مستقل عن الكتلة الحضرية المحيطه به كونه يقع داخل مجمع حاكم الأحساء في ذلك الوقت (قصر إبراهيم). ينطبق هذا على كثير من المساجد التي بنيت في الحجاز في المدينة المنورة وحتى في مكة والمشاعر المقدسة ولعل آخرها هو مسجد العنبرية بالقرب من سكة حديد الحجاز في المدينة المنورة الذي بني في مطلع القرن العشرين.

مسجد العنبرية – المدينة المنورة

وبشكل عام يجب أن نؤكد أن الكتلة المعمارية للمساجد التاريخية في المملكة كانت دائما متناغمة مع كتل المباني المحيطة بها ولم تتميز عنها لا في الجم ولا في الإرتفاع ولكن كثير منها كان يوظف المئذنة كعلامة فارقة ضمن المحيط العمراني وهذا ليس على الإطلاق لأن أغلب المساجد في جنوب المملكة لم يكن لها مآذن.  نستطيع أن نقول أن المسجد رغم بساطته واندماجه في المحيط العمراني ظل يميز “خط السماء” في أغلب البلدات القديمة.

قاعة الصلاة

تمثل قاعة الصلاة “التعريشة” الأمامية المحاذية لجدار القبلة، وبالطبع لم تبقى تلك التعريشة البسيطة كما هي طول كل السنوات الفائته بل حدث لها تطور كبير واستجابت للمعطيات المناخية والتقنية وأخذت أشكال مختلفة حسب المكان والزمان.  في معظم المساجد التاريخية في المملكة خصوصا في نجد والأحساء ودومة الجندل في شمال المملكة، سوف نجد التعريشة المكونة من صف أو صفين من الأعمدة المفتوحة على الفناء هي الغالبة، وهذا الطراز هو المهيمن حتى في الحواضر الإسلامية الكبرى مثل بغداد والقاهرة ودمشق لكن بمقاسات أكبر وأكثر تعقيدا من الناحية الفراغية والتقنية، لكنها في المساجد التاريخية في المملكة ظلت على بساطتها الأولى وإن أصبحت مع الوقت ذات تشكيل خاص مثل العقود المدببة في نجد والنصف دائرية في الأحساء وهي مبنية بالطين كما في نجد، وأحيانا بالحجارة المخلوطة بالطين المغطاة بالجص كما في الأحساء.  يمكن مشاهدة أمثلة لها في مسجد السريحة في الدرعية ومسجد عمر في حي الدرع في دومة الجندل.

مسجد السريحة – الدرعية

في أغلب المساجد التهامية والجبلية تكون قاعة الصلاة مغلقة وليست مفتوحة على أي فناء لبرودة الجو بينما في الطراز الحجازي تطورت قاعة الصلاة كما نرى ذلك في مسجدي الشافعي والمعمار في جدة لتصبح قريبة من عمارة المساجد الكبيرة في الحواضر الكبرى.  لكن يجب أن نؤكد هنا أنه حدثت تأثيرات متعددة مع الوقت من خارج الجزيرة العربية خصوصا المد العثماني في شرق الجزيرة العربية الذي نتج عنه تطور عمارة ذات هوية عثمانية مثل مسجد علي باشا في الهفوف (مسجد القبة) الذي يمثل أول مسجد بقبة مركزية دون أعمدة في قاعة الصلاة في المنطقة وهو مازال موجودا حتى اليوم، وقد بني بالطوب المحروق وهي تقنية لم تستمر طويلا في المنطقة بعد خروج العثمانيين منها.

مسجد علي باشا (مسجد القبة) – الهفوف

صحن المسجد والرواق

يعتبر “صحن” أو فناء المسجد أحد عناصره التي ظلت قائمة حتى اليوم خصوصا وأنه يمثل أحد الإمتدادات الرئيسية لمسجد الرسول، لكن في المسجد العسيري والتهامي والجبلي قد لا نجد رواق واضح للمسجد فقاعة الصلاة مفتوحة على ساحة تعتبر هي الساحة الرئيسية للقرية التي عادة يجتمع فيها الناس بعد الصلاة وحتى يستقبلون فيها ضيوف القرية وهي وإن كانت تعتبر بمثابة فناء للمسجد، إلا انها ساحة متعددة الأغراض.  في نجد والأحساء وشمال المملكة نجد صحن المسجد بأصالته المبكرة البسيطة والمباشرة، كما أن فكرة الرواق المحيط بصحن المسجد (الذي يعتبر امتدادا لفكرة الصفة في مسجد الرسول وإن كانت الصفة وجدت في الجهة المقابلة لقاعة الصلاة بينما الرواق يحيط بصحن المسجد من جهة أو أكثر) لم تتطور كثيرا في هذه المناطق وإن كان هناك استثناءات مثل مسجد “الجبري” في حي الكوت في الهفوف بالأحساء والذي يعود تاريخ بناءه إلى أكثر من 600 عام.  في الطراز الحجازي وحتى مساجد البحر الأحمر نجد أن صحن المسجد والرواق المحيط به يشكل عناصر أساسية كون الحجاز ظل على الدوام يمثل امتدادا لأي تطور معماري يحدث في الحواضر الكبرى في العالم الإسلامي.

من الضروري أن نؤكد هنا أن المسجد تحكمه قواعد فراغية شبه ثابته فعلاقة قاعة الصلاة بالفناء أساسية لكنها ليست إلزامية وحتى في الأحساء في مسجد علي باشا (القبة) بنيت قاعة الصلاة ذات القبة المركزية قبل 450 سنة دون أن يكون للمسجد فناء لكن له رواق أمام قاعة الصلاة المغلقة مخالفا لنمط المساجد السائد في المنطقة.  وهذا نجده في مسجد العنبرية بالمدينة المنورة المبنىي على الطراز العثماني في مطلع القرن العشرين 1908م.  ما نود أن نؤكد عليه هنا هو أن الإستثناءات في عمارة المساجد التاريخية في المملكة لا تمثل القاعدة المعمارية والعمرانية الأساسية التي تمثل خاصية فريدة ارتبطت على الدوام بأصالة عمارة المسجد التي أرسى قواعدها الرسول صلى الله عليه وسلم في مسجده.

مسجد علي باشا (مسجد القبة) – الهفوف

المئذنة

تعتبر المئذنة من العناصر الدخيلة على المسجد والتي بدأت في الظهور في وقت مبكر جدا في القرن الأول الهجري (ربما بداية من الجامع الأموي) لكن فكرة المئذنة ظهرت مع بناء المسجد الأول عندما بدأ مؤذن الرسول يؤذن على دكة مرتفعة فوق سطح المسجد ومن المتوقع أن هذه الفكرة كانت ستقود إلى بناء المآذن بعد ذلك.  في المناطق التهامية والجبلية وحتى في الطراز العسيري لا يوجد مآذن للمساجد وتم الإبقاء على الدكة المرتفعة على سطح المسجد رغم أن عمارة هذه المناطق تقوم على بناء الأبراج المتعددة الطوابق والقصبات المرتفعة لكنها لم تنعكس على عمارة المسجد ولم تتطور المئذنة حتى منتصف القرن العشرين.  أحد المآذن المبكرة نراها في مسجد عمر بن الخطاب في دومة الجندل في شمال المملكة، وهي مبنية بالحجر، ولا أعلم على وجه التحديد تاريخ هذا المسجد أو المئذنة لكنها تقترب كثيرا من طراز مسجد عقبة بن نافع في القيروان بتدرجه الهرمي.

مسجد عمر بن الخطاب – دومة الجندل

المئذنة في نجد لها طرازها المميز وغالبا ما تكون أسطوانية على شكل قمع رأسه للأعلى لكنه مشطوف أو تكون ذات قاعدة مربعة وغالبا ما تكون فوق قاعة الصلاة ويقود لها سلم (درج).  بعض المآذن كبيرة جدا ويوجد بها غرف كانت تستخدم للتهجد في رمضان كما في مسجد عنيزة في القصيم.  ربما تكون المئذنة هي أحد المعالم الرئيسية التي يتميز بها المسجد النجدي على وجه الخصوص لكن كذلك في الأحساء يوجد خصوصية للمئذنة تتمثل في كونها ذات ارتفاع منخفض وهي أسطونية برأس مقبب.  كما يوجد مآذن ذات طراز سلجوقي على شكل قمع رأسه للأعلى برأس مدبب أو مقبب ويحيط برأس المئذنة شرفة بارزة ذات تشكيلات خشبية.  في الحجاز المآذن متعددة الأشكال والإرتفاعات لكنها في مجملها تحمل التأثير المملوكي والعثماني.

 مسجد عنيزة – القصيم  

يجب أن نوضح هنا الحاجة لإرتفاع المئذنة كان محدودا كون أغلب التجمعات العمرانية صغيرة ولم  تتوسع كثيرا حتى في المدن الكبيرة مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة (وهما استثناء) والهفوف وجدة وظلت الحاجة للإرتفعات الكبيرة مقصورة جدا على مناطق محددة قد تكون في سدير والقصيم من منطقة نجد وقد يكون سبب ارتفاع المآذن في القرى النجدية أنها كانت تستخدم كبرج للمراقبة فالمنطقة مشهورة بمثل هذه الأبراج كبرج الشنانة في الرس بالقصيم.  علما بأن المساجد التي لا يوجد فيها مآذن كما في مناطق جنوب المملكة هي في الأصل تجمعات عمرانية أسرية محدودة العدد لذلك لم يكن هناك حاجة فعلية للمئذنة.  وفي حقيقة الأمر أننا لو أمعنا النظر وحاولنا ربط تطور العديد من العناصر في المسجد بالثقافة الإجتماعية والخصوصية الطوبوغرافية والمناخية سوف يتضح لنا العديد من خصائص أنماط عمارة المساجد التاريخية في المملكة.

 برج الشنانة – ( الرس) القصيم

الخلوة وعناصر أخرى

الملفت للنظر أن المسجد التاريخي في العديد من مناطق المملكة كان يستجيب للحالة المناخية وتم تطويره ليتلائم مع حاجة الناس في فصول السنة المختلفة، ففي فصل الصيف غالبا ما تستخدم قاعة الصلاة المفتوحة على صحن المسجد في نجد والأحساء وشمال المملكة في أوقات الظهر والعصر بينما يستخدم الصحن وأحيانا سطح المسجد (خصوصا في نجد) في صلاة المغرب والعشاء والفجر لذلك نجد في الغالب سلم (درج) في صحن المسجد، في المساجد النجدية، يؤدي إلى سطح قاعة الصلاة كما نجد في كثير من الأحيان محراب في صحن المساجد في الأحساء دلالة على استخدام الصحن للصلاة بدلا من قاعة الصلاة في الصلوات المسائية في فصل الصيف.  وفي الشتاء تتميز المساجد النجدية على وجه الخصوص بوجود الخلوة وهي عبارة عن قاعة للصلاة تحت الأرض (القبو) يتم الوصول لها عبر سلم (درج) من صحن المسجد، وتستخدم في فصل الشتاء فقط لصلوات المغرب والعشاء والفجر وأحيانا جميع الصلوات حسب الظروف المناخية.

ويجب ان نؤكد هنا على أن الإنسان في نجد كان متبصرا للوضع الطبوغرافي وطبيعة الأرض لذلك نجد أن المساجد التاريخية في جلاجل في نجد لم يكن فيها “خلوات” كون القرية برمتها تقع فوق مجرى مائي تحت الأرض وفي مسجد الظهيرة في الدرعية نجد أن الخلوة مرتفعة في صحن المسجد وقسمت الصحن الى جزء مستوي مع قاعة الصلاة وآخر مرتفع قليلا كون الأرض لا تسمح بالنزول وبناء قبو كامل تحت الأرض.  وبشكل عام يجب أن ننبه على مسألة “مكان الصلاة المرن” الذي تتميز به كثير من المساجد التاريخية في المملكة حيث يتم نقل الصلاة من مكان لآخر حسب الظروف المناخية وبشكل عملي وسلس.  قاعة الصلاة في هذه الحالة ليست ثابته بل هي متنقلة من الناحية الوظيفية والمكانية وهو الأمر الذي شجع السكان دائما على تطوير عناصر وظيفية متعددة لتحقيق هذه المرونة.

 مسجد الظويهرة – الدرعية 

 

 مسجد الظويهرة – الدرعية 

أماكن الوضوء تكاد تكون متشابهة في أغلب المساجد التاريخية في المملكة حيث تعتمد بالدرجة الأولى على وجود بئر ماء يتم رفع الماء منه إلى مجرى مائي جداري مكشوف مرتفع بحيث يوجد فتحات يتم التحكم بها من قبل المتوضئين الذين غالبا ما يتم الفصل بينهم بجدران صغيرة لتحقيق الخصوصية.  كما يوجد مجري في الأرض لتصريف ماء الوضوء إلى ما يسمى “عين” لتجميع هذه المياه، ومن النادرعلى سبيل المثال أن يتم استخدام هذه المياه للزراعة لكن أحيانا يوجد ما يشبه الحديقة الصغيرة المحاذية للمسجد تسمى في الأحساء “بستان”.  التنظيم الفراغي والوظيفي لعناصر أماكن الوضوء بسيطة وعملية وتحث على الاقتصاد ولم تتطور مثل المساجد الكبرى في الحواضر الإسلامية كي تصبح نوافير وأسبلة بل ظلت على بساطتها ونفعيتها مع بعض الاستثناءات النادرة.

العناصر التزينية

بشكل عام تخلو المساجد التاريخية من عناصر الزينة والزخارف إلا من بعض المساجد القليلة التي احتوت على بعض الزخارف الجصية وبعض النقوش على الأبواب الخشبية وغيرها. وغالبا ما تكون العناصر التزينية مرتبطة بوظائف تخدم المسجد مثل “الكوات” التي في الحوائط والتي تسمى في الأحساء “روازن” وغالبا ما تكون لحفظ المصاحف وبعض الكتب الدينية، أو تستحدم لحفظ المصابيح للإضاءة الليلية. كما يمكن مشاهدة استخدام العقود خصوصا في الجدار المقابل لصحن المسجد الذي يحدد بداية قاعة الصلاة وكل منطقة لها طرازها الخاص الذي يمكن تمييزه عن باقي الطرز.

  الكوات أو روازن

أما بالنسبة لإستخدام القباب في المساجد التاريخية فهو أمر نادر ومتأخر ففي الغالب الأعم لم تستخدم القبة كعنصر معماري يميز المساجد التاريخية ولكن هناك بعض الإستثناءات التي أتت من الخارج كمسجد القبة العثماني في مدينة الهفوف وكذلك يوجد قباب صغيرة في مسجد الجبري في الأحساء وظف كنظام إنشائي أكثر منه شكل جمالي كذلك تتميز المساجد الحجازية المتأخرة في الفترة العثمانية بوجود القباب كما في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمساجد الأخرى المنتشرة في المنطقة مع انعدامها تماما في باقي المناطق وأود أن أشير هنا إلى شخصية المساجد التاريخية في المملكة وارتباطها بأصل المسجد رغم الإستثناءات التي ذكرتها.

المسجد النبوي الشريف – المدينة المنورة

الخاتمة

لعل من أهم الملاحظات التي يمكن أن نثيرها حول المساجد التاريخية في المملكة هي عدم تطور المحور الحركي الذي يشير للمحراب كما حدث في العديد من المساجد التي ظهرت في الحواضر الكبرى، ويبدو أن التجارب المعمارية، في أغلبها، كانت فطرية ومباشرة ومرتبطة، كما قلنا، بالأصل ولعل هذا نشأ في الأساس من كون التجارب نفسها كانت محدودة ووظيفية ارتبطت على الدوام بحاجة الناس المباشرة ومواردهم المحدودة، ويمكن كذلك ربطه بعدم تطور البلدات والمدن القديمة بالشكل الذي يجعل من المسجد محور للحركة الرئيسة بل ظل على الدوام جزء ممتد للعمران ونظامه الحركي لذلك لم تظهر الأجد لمثل هذا المحور.  كما أن التفاصيل البصرية، إلا من بعض الاستثناءات، كانت بسيطة وعفوية ومرتبطة بوظائف المسجد أكثر من كونها تجميلية.

هذه القراءة السريعة للخصائص العمرانية والمعمارية للمساجد في المملكة العربية السعودية تبين كم التنوع لهذه العمارة التي تفاعلت مع الثقافة والطوبوغرافيا والمناخ وحاولت أن تحافظ على الإرتباط الوثيق بالمساجد الأولى التي نشأت في المنطقة لكنها طورت في نفس الوقت هويات وطنية متعددة ونماذج مختلفة وبنفس العناصر المعمارية التي يتكون منها المسجد.  في اعتقادي أن القيام بدراسة مستقبلية تفصيلية للأنماط المعمارية للمساجد التاريخية في المملكة خصوصا مع توظيف البعد التاريخي وإعادة ترتيب هذه المساجد حسب التسلسل التاريخي وتطور أشكالها المعمارية وانتقالها من مكان إلى آخر وتأثر بعضها ببعض سوف يتيح لنا فرصة لفهم التطور التاريخي المعماري وتولد الأشكال التي ساهمت عبر التاريخ في جعل المسجد عنصرا متناغما ومتميزا مع البيئة المحيطة به.

المراجع

موسى، عبدالله كامل (2019) عمارة المساجد في الجزيرة العربية والعالم الإسلامي منذ ما قبل الهجرة النبوية حتى نهاية العصر الراشدي، الإسكندرية، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر.

المغنم، علي صالح (2006) جواثى ومسجدها: دراسة توثيقية حضارية وآثارية، الأحساء- المنطقة الشرقية، الرياض، وكالة الآثار والمتاحف، وزارة التربية والتعليم.

بن عساكر، راشد محمد (2017) تاريخ المساجد والأوقاف القديمة في بلد الدرعية إلى عام 1373هـ، الرياض، دار درر التاج للنشر والتوزيع.

الشويش، سعود فهد محمد (2014) المساجد القديمة في المملكة العربية السعودية، الرياض، الهيئة العامة للسياحة والآثار.

37