اللغات

المكتبة

موسكيبيديا

معلومات

الابتكارات

الترشيح
العربية

شكل المسجد والثقافة


أ.د مشاري عبدالله النعيم
أكتوبر 11, 2018

دعوني أبدأ بالقول أن عنوان المقال يستعير عنوان الكتاب المعروف “شكل المسكن والثقافة” الذي كتبه “آموس ربابورت” في الستينيات من القرن الماضي وهو أحد رواد دراسات علم السلوك في البيئة العمرانية، ويبدو أن عمارة المسجد يمكن أن تنطبق عليها محددات وشروط التأثر الثقافي الذي عادة ما يترك أثره العميق على الشكل وعلى أنماط الاستخدام والمعاني التي عادة تتولد من هذه المنظومة العمرانية. كما أن ما سيتم طرحه في هذا المقال هو إستمرار للنقاش الذي بدأناه حول “مسجد المستقبل” والأهمية القصوى لبناء مسار لتراث مواز لعمارة المساجد. ولنبدأ بفهم العناصر المكونة لعنوان هذا المقال وهي: المسجد والشكل والثقافة، وكما هو معروف فإن المسجد هو: دار العبادة الذي يؤمه المسلمون خمس مرات يوميا وليس بالضرورة أن يتجسد في بناء لأن العبرة هي بوجود المكان ووجود الاتجاه نحو القبلة. الشكل مصطلح حوله نقاش كبير في النظريات المعمارية لكنه بصورة عامة عبارة عن مكون فراغي أو بصري له صورة مادية لها سمات محددة تختلف من مكان إلى آخر. أما الثقافة فتعني مجموع الخصائص العرقية والاجتماعية والاقتصادية والفنية وغيرها التي تميز الشعوب عن بعضها البعض، وهي تتأثر بالعامل الزمني لكنها غالبا تحمل بذور العناصر الاصلية التي توجد في مكان ما.

من الواضح ونحن نتناول مبنى له انتشار كوني أن مسألة الثقافة تشكل عامل تغير واختلاف وتميز لعمارة المساجد التي ظهرت خلال تاريخ الحضارة الإسلامية وبالتالي فإن القول أن المسجد هو مجرد “وظيفة” للعبادة لا يمكن التسليم بها بل ويمكن نقضها بسهولة، لأن تعددية أشكال المسجد رغم أن وظيفته شبه ثابته يعكس كيف ساهمت الثقافات المحلية في تطور شكل المسجد ومن ثم تطور وظائفه بعد ذلك. فهم التطور المعماري التاريخي لعمارة المسجد من منظور ثقافي/مهني يعد أمرا مهما في الوقت الراهن، خصوصا في ظل فرضية “التراث الموازي”، وبالتالي فإن التعامل مهنيا في الوقت الحاضر وفي المستقبل مع عمارة المسجد كمنتج ثقافي قد يساهم بشكل كبير في تحديد ملامح مسجد المستقبل.

عند دراسة المسار “الزمكاني” Spatio-temporal Path لتطور شكل المسجد وعلاقته بالثقافة يمكن التوقف عند ثلاث اتجاهات أسست لما يمكن أن نسميه “المقاومة الثقافية للشكل المعماري للمسجد” Cultural Resistance of the Mosque Form تميز حالة الشكل في الوقت المعاصر. هذه الاتجاهات هي: إستمرار الشكل التاريخي Continuity of the historical form ويعني أن الصورة التاريخية للمسجد ما زالت مهيمنة على شكل المسجد ولم يتحرر منها. الاتجاه الثاني: تحول الشكل التاريخي وتهجينه باشكال أخرى Transforming of the Historical Form (Hybrid Form) وهو توجه ميز شكل المسجد عبر تاريخ الحضارة الاسلامية حيث تفاعل شكل المسجد مع البيئات والثقافات المحلية وتطورت أنماط متعددة لشكل المسجد حسب المكان الزمان ويمكن بناء مسار “زمكاني” لهذه الاختلافات والتحولات، لكن ما حدث لنوعية التحولات وأنماط التهجين خلال القرنين الأخيرين يعتبر تحولا غير مسبوق أدى إلى الاتجاه الثالث الذي يركز على: ذوبان الشكل التاريخي بالكامل Melting of the Historical form وهذا الاتجاه يعتبره البعض خروجا عن النمط المعروف للمسجد وتحد لهويته التي استمرت اربعة عشر قرنا.

فهم علاقة شكل المسجد بالثقافة من خلال هذه التوجهات التطورية للشكل المعماري تتطلب فهم “ميكانيكية” تطور الاشكال وتحولاتها عبر الزمن فمن المعروف أن الاشكال المعمارية تعمل ضمن إطار المقاومة الثقافية باتجاهين، الأول: أن تصطدم الأشكال القائمة بحالة تشريعية أو تقنية أو بيئية جديدة وبالتالي تبدأ في التكيف مع المعطيات الجديدة وتنتج أشكال جديدة وهذا ما حدث في بداية تأسيس المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث شكلت التشريعات والافكار الجديدة التي أتى بها الإسلام عمارة جديدة لم تكن معروفة في السابق. ما يميز هذا الاتجاه هو أنه غالبا ما يولد أشكال جديدة لم تكن موجود في السابق لكنها في نفس الوقت تتفاعل مع التقنيات والبيئة المحلية وتصنع معها أشكالا أولية تعتبر هي المنبع الاساس للأشكال التي تأتي بعدها. الاتجاه الثاني هو: الاشكال الجديدة التي تدخل على بيئة لها إطارها التنظيمي والتشريعي وتبدأ في إحداث تحولات وتطورات للأشكال القائمة تنتج عنها أشكال جديدة مثلما حدث في بداية تطور عمارة المسجد في الدولة الأموية عندما بدأت المعطيات الجديدة التي اكتسبها المسلمون من الحضارات التي كسبوها في العراق والشام تساهم في بلورة هوية عمارة المسجد (الجامع الأموي في دمشق وقبة الصخرة في القدس). ينطبق هذا على جميع التحولات الكبرى التي مرت بها عمارة المسجد حتى يومنا هذا.

لو حاولنا أن نربط هذه التوجهات بالتراث الموازي سوف نجد أنه غالبا ما يكون هناك أشكال وظيفية أصلية وأخرى نبعت من ظهور ثقافة وتشريعات جديدة، وتعتبر أصليه في مضمونها وليس في شكلها المعماري، وبالتالي فإن دراسة الشكل غالبا ما تتداخل فيها هذه المعطيات حتى لو أردنا الرجوع لمنابع الاشكال وأصولها. فمثلا هناك من يخلط بين المبدأ الفكري والديني الذي حدد ماهية المسجد وبين الفعل المعماري الذي قام من خلاله الرسول صلى الله عليه وسلم بتجسيد المبادئ التي يقوم عليها المسجد. البناء نفسه يعتبر أحد التفسيرات الشكلية للمبادئ وليس التفسير الوحيد (وهو تفسير جارى النمط المعماري السائد في المدينة المنورة في ذلك الوقت) وغالبا ما يكون “التشخيص” المعماري للفكرة الجديدة هو أحد الخيارات وليس كلها وغالبا ما تتغير الخيرات وبالتالي التشكيل عندما تتغير المعطيات التقنية والبيئية وحتى الحرفية. إذا فهم شكل المسجد وتأثير الثقافة عليه على ضوء فرضية التراث الموازي تتطلب تحديد الفكرة التي نبع عنها شكل المسجد ومحددات هذه الفكرة ثم بعد ذلك فهم الاشكال المبكرة التي تم ترجمة الفكرة من خلالها على صورة مبان وأشكال.

4