اللغات

المكتبة

موسكيبيديا

معلومات

الابتكارات

الترشيح
العربية

جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا


أ.د مشاري عبدالله النعيم
مايو 17, 2018

نحاول نحن في جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد أن نطرح قضية مهمة جدا حول عمارة المسجد في القرن الواحد والعشرين، حيث تخوض الفكرة المطروحة في مفهوم تصميم المسجد وفلسفته الفراغية على وجه الخصوص، وربما هي تلفت الانتباه لبعض الافكار خارج الصندوق التقليدي لعمارة المساجد، وهذا يعتبر أحد الاهداف المهمة التي تسعى لها الجائزة.  ان الفكرة ببساطة ترتكز على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا” وهذه خصوصية للاسلام (ضمن خمس ميزات) أعطيت للرسول (عليه الصلاة و السلام) ولم تعطى لنبي قبله، وبالتالي فإن الارض بمعناها الواسع وبالحرية المكانية والبصرية التي تتيحها هي مسجد للمسلمين ومصدر لطهارتهم، كما أن هذه الميزة تشير بشكل أعمق الى أن “عمارة المسجد” قد تختلف من حيث المرونة والانفتاح عن عمارة أي من دور العبادة في الديانات و المعتقدات الأخرى و لهذا توقفت كثيرا عند هذه الملاحظة وتفكرت في مايمكن أن تساهم فيه هذه الميزة في تعريف “عمارة المسجد في القرن الواحد والعشرين” التي تهدف لها الجائزة والتي يمكن أن نتوقف عدة وقفات لمناقشتها و بحثها هنا.

فالوقفة الأولى تتناول فكرة “الفضاء الكوني” Universal Space فطالما أن الأرض هي مسجدا فهذا يعني أن الحدود المكانية للمسجد غير محدودة وأن تحديدنا للمكان – وأقصد هنا المسجد كمبنى له خصوصية وحدود واضحة – لا يعني فعلا أن هذه الحدود هي “فقط” المسجد، وبالتالي فإن عمارة المسجد “المادية” لا يمكن أن تحتوي حقيقة المسجد الوظيفية وأن امتداد المسجد هو امتداد لا نهائي ، و بالتالي فان الفضاء الكوني من الناحية الفلسفية هنا يشمل الارض كلها، لذلك فإن مفهوم عمارة المسجد، التي نفترضها يجب أن تكون مرنة وذات خاصية “تمددية” وأن لا تؤطرها أي مبادئ بعينها لتحصرها في صورة محددة ، و ان فضاء المسجد يتسع باتساع الارض، وهذا قد يدخلنا في نقاش مفتوح حول “الحدود التي تتوسع حسب الحاجة وحسب عدد المصلين” التي تعبر عنها وظيفة المسجد وهذا في حد ذاته يقود إلى الوقفات الأخرى التالية التي نود أن نثيرها.

و أما الوقفة الثانية فهي مرتبطة بشكل مباشر بتصميم المسجد، فإذا كان المسجد هو فضاء ممتد فيفترض أن يكون فضاءا مفتوحا وأقصد هنا بشكل خاص قاعة الصلاة التي تعبر عن وجود المسجد في المكان وتحدد نقطة البداية فيه (المحراب) التي يفترض أن لا يتقدم عليها أحد لكنها تحدد المجال المكاني للصلاة ابتداءا منها ويمكن ان يتوسع هذا المجال حتى يشمل الارض برمتها (من الناحية المجازية والنظرية) وبالتالي فمن الاولى أن تكون قاعة الصلاة مفتوحة وتوّاقة الى التواصل مع الخارج و بحيث يفترض أنها تمتد وتتجرد من كل العوائق المادية التي تقيدها في إطار فراغي محدد.  هذه التساؤلات مطروحة للتفكير ضمن “هوية المسجد” في هذا القرن وما يجب أن يكون عليه.  والحقيقة هنا ان هذه الفكرة بالذات شعرت بها عندما شاهدت بعض المساجد التاريخية في المملكة،  حيث نلحظ ان المسجد في نجد وفي الاحساء يكون فيه جدار القبلة صريحا واضحا و يمثل حدا ونقطة بداية بينما يكون فضاء الصلاة واسعا ورحبا وبالتالي فان الاروقة التي تبنى للمسجد ما هي إلا “علامة” مكانية فقط ، أما في عسير فنشاهد المساجد المفتوحة أعلى الجبال حابسة للأنفاس و هي تبين مفهوم “جعلت لي الارض مسجدا” بصورة روحية عميقة.

و أخيرا الوقفة الثالثة، والتي سأتناولها هنا على عجالة، فهي شكل قاعة الصلاة في ضوء “التوق” الى الانفتاح والتحرر المكاني الذي يعبر عنه المسجد.  المسجد الحرام قاعة مفتوحة على السماء، والاروقة المحيطة بساحة الحرم لا تمنع الحرم عن الامتداد خارجها ، وبالرغم من خصوصية المسجد المعمارية الا أن العناصر المادية لا تمنع امتداد فضاء المسجد إلى خارجها.  عبر تاريخ عمارة المسجد، لاحظت أن هناك دائما توقا للوصول إلى المساحات الخالية من العناصر المادية التي تعيق المصلي عن التواصل مع الفضاء الارحب.  و أخيرا فان تطور قاعة الصلاة قبل قرون  لتكون فضاء تغطيه قبة دون أعمدة “Central Dome Mosque” ما هو الا محاولة للتعبير عن الميزة الكونية لفضاء المسجد، وبالتالي فإن حديثنا عن عمارة المسجد في المستقبل قد يتطلب أن نفكر في هذه الوقفات وأن نتناولها بشيء من التفصيل في مقالات قادمة بإذن الله.

7