اللغات

المكتبة

موسكيبيديا

معلومات

الابتكارات

الترشيح
العربية

ولله المشرق والمغرب


مايو 24, 2018

أ.د مشاري بن عبدالله النعيم

فكرة الاتساع التي طرحناها في المقال السابق لها ما يدعمها في القرآن الكريم، قال الله تعالى: ”وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”  (البقرة:115).  هذه الآية على وجه الخصوص تثير عدة أفكار حول عمارة المسجد، فعلى الرغم ان المشرق والمغرب لله، وهذا يشير إلى السعة اللامحدودة في التوجه لله والصلاة، إلا أن المسجد يتصف بشكل أساسي بالتوجيه، فكل المصلين يفترض أن يتجهوا إلى الكعبة، بما في ذلك من هم داخل المسجد الحرام، نقول هذا لأن فكرة التوجيه مرتبطة بالتوجه إلى مكان واحد وليس إلى جهة واحدة، فليس في المسجد شرق أو غرب، أو شمال أو جنوب، له خصوصية بل هناك مكان هو الذي يتصف بالخصوصية والقداسة والصلاة تتجه إليه.

وبين التوجيه والاتساع تكمن فكرة عمارة المسجد التي تحتوي على خصائص مادية محددة دون شك، وأهمها تحديد صفوف المصلين، وهي تحديد يعرف المكان ويعكس ديناميكيته، أي أن التوجيه يساهم في تحديد الكتلة العمرانية ويجعلها مرنة ومتنوعة، إذا كان المسجد مكوَن من بناء، أو أنه يحدد الشكل الفراغي المفتوح خصوصاً عند وجود المصلين في أثناء الصلاة.  هوية المسجد في الحقيقة تنبع من هذا الحد المهم.  وأنا شخصياً أعتقد أن العناصر الأخرى التي ارتبطت بالمسجد بعد ذلك لا تشكل عناصر “جوهرية” يمكن أن تجعلنا نستدل على المسجد من خلالها، ولعل هذا يثير بعض الجدل، لكن سأحاول في هذا المقال والمقالات القادمة طرح الفكرة، وهي فكرة على كل حال قابلة للنقاش.

لعل هذه المسألة على وجه الخصوص، هي التي تهمنا في تعريف “مسجد المستقبل”، إذ يبدو أننا نريد العودة إلى جذور عمارة المسجد، ونفهم الكيفية التي وصل بها الشكل المتعارف عليه الآن للمسجد ولماذا اتخذ هذا الشكل بالذات وليس شكلا آخر؟ مع أهمية وضع فكرة الاتساع وتجاوز الجدران، التي تصنع حدود مبنى المسجد وليس المسجد، في عين الاعتبار، لأن الشكل العمراني الذي تشكل في أذهان الناس هو لعمارة “قاعة الصلاة” وليس لحدود المسجد التي هي أصلاً مفتوحة وغير محددة بعد موقع الإمام.

هذا ما يجعلني أعود لأصول شكل المسجد وأبحث في علاقة “الشكل” بالوظيفة وهي علاقة عميقة وواضحة في عمارة المسجد، فكلنا يعرف أن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ،هو عبارة عن سقف وجدران ولا يوجد فيه أي من العناصر البصرية الاستدلالية التي نراها اليوم في عمارة المساجد.  وأن هذه العناصر نشأت تدريجيا إما بسبب الحاجة الوظيفية، مثل: المئذنة، أو بسبب التأثر بعمارة من سبقنا مثل: القبة، وأن فكرة القاعة المغلقة بالكامل ظهرت نتيجة العوامل الجوية والحاجة إلى إيجاد مكان آمن ومغلق يقي من البرد والحر، وليس لأن المسجد يجب أن يكون بهذا الشكل.

أستطيع هنا أن أوكد أن كل الأشكال الراسخة في أذهاننا عن عمارة المسجد ليس لها أصل خارج الحاجة الوظيفية، ولكن قد تكون هذه الأشكال تطورت بشكل عميق وأصبحت أشكالاً مرتبطة بالذاكرة الجمعية وتحولت إلى رموز أكثر منها إلى أشكال ذات وظائف، مثل المئذنة والمحراب، لكنها ليست أشكالاً تعطي المسجد شرعيته ولكنها قد تعطي المسجد رمزيته واستدلاليته، لكن ما اعتقده هو أنه على الرغم من وجود أشكال قد تكون ضرورية للتعرف على المسجد، لكنها ليست بالضرورة هي التي تحدد عمارة المسجد. هذا ما لفت نظري في مسجد غار حراء في اسطنبول فالمئذنة هي كل ما يشير للمسجد الذي يبدو كأنه تحت الأرض لكنه مفتوح على الأفق “الطوبوغرافي الممتد.  قاعة الصلاة موجودة كمحدد لبداية المسجد لكن فضاء المسجد يتسع بشكل عميق ليشمل المكان المفتوح برمته.  أرى أن هذه الميزة في عمارة المساجد هي مكمن القوة فيه ومنطلق أساسى لفلسفته.

نحتاج أن نعود إلى الإرث العظيم لعمارة المساجد ونفهم كيف تطورت الأشكال المختلفة للمسجد وكيف استجابت للجغرافيا والتقنيات المحلية.  ويجب في أثناء مراجعتنا أن نضع فلسفة الاتساع والحدود “الخفيفة” التي يرتكز عليها مفهوم الصلاة كمرجع يمثل عمارة المسجد الحقيقية، وليست هذه الأشكال الثقيلة التي حولت المسجد إلى نسخة متكررة يغيب عنها الإبداع. ولعلنا في المقالات القادمة نتطرق بالتفصيل إلى بعض العناصر التي لها جذور فلسفية مرتبطة بمفهوم المكان الكوني للمسجد الذي هو هدف مسجد المستقبل.

0