1- بشكل عام، الكتَاب عمل جبار ويعتبر بكل ما تعنيه الكلمة إضافة قيمة في مجاله للمكتبة العربية والاسلامية والعالمية. ربع الكتَاب (حوالي 113 صفحة) كان في المقدمات والمقاربة النقدية ونحو ثلاثة أرباع الكتَاب (حوالي 320 صفحة) كان في الموضوع الرئيسي وهو التعريف بمساجد القائمة القصيرة والتي ضمت في رأيي تصاميم بديعة تظهر أن عمارة المساجد لا تزال نابضة بالابداع.
2- من حيث الشكل فالكتاب ضخم فخم معاصر الطابع والتصميم ونمط الحروف .. شكل الكتَاب ولون غلافه اللافت غير التقليدي وكذلك عنوانه الجميل الملهم يليق بهدف الكتاب ويدل على مهنية عالية. نحو ثلث صفحات الكتَاب كانت للكتابة والثلثان للصور والمساحات التصميمية والعناوين وشروحات الصور. هذه تقسيمة رائعة لا تفقد الكتَاب رصانة المحتوى ولكنها تمنحه السهولة الشكلية والتشويق البصري.
3- أعجبتني فكرة أن الكتَاب يقدم للدورة الثالثة من الجائزة التي لا تهدف لاعطاء جوائز للمباني وانما للعقول والافكار المجددة التي تعكس زمنها وتخاطب لغة ومفاهيم المستقبل، وان المسجد كما يربط الناس فهو يربط الثقافات. وقد أوضح السيد الفوزان مؤسس الجائزة أن الغرض من تأسيس الجائزة كان البحث عما يطور المساجد حول العالم ويرتقي بكفاءتها الوظيفية والتقنية ويقلل من تكاليف تشغيلها من أجل حفظ الموارد.. بمعنى آخر تطوير مفهوم استدامة المساجد. وكذلك الصيغة المثلى لارتباط المسجد مع محيطه الحضري وتعزيز حضوره الثقافي في الحياة العامة.
4- مقدمة الكتَاب كانت موفقة في تحديد النقاش المباح في عمارة المسجد ونقد القناعات التي لدى الكثيرين حول شكل المسجد وكيف يجب أن يكون. هذا النقاش مهم للوصول الى متطلبات المرونة والاستدامة والابداع وتبني أفكار جديدة في مسجد المستقبل. كما أعجبني تحديد ونقاش الاشكاليات الثلاث للمساجد: وهي أنه على الرغم من الدور المحوري للمسجد في حياة المسلمين اليومية إلا أن منتجه المعماري لم يتطور خلال ال٢٠٠ سنة الماضية، وظل المنتج المعماري للمسجد تحت هيمنة الصورة التاريخية التي في الأذهان مما أدى لاجترارها بايجابياتها وسلبياتها.. وأن الفرصة في هذه المرحلة سانحة لتعديل التوجه العام في عمارة المساجد حول العالم بناء على أفضل الممارسات المعاصرة التي تلعب جائزة عبداللطيف الفوزان دورا أساسيا في كشفها، وكذلك محاولة الاجابة على السؤال الجوهري هل شكل المسجد ثابت أم متحول .
5- مقدمة الامير سلطان تميزت بالارقام المفيدة وقد لفت نظري أن العدد التقديري للمساجد في العالم يبلغ نحو 6ر3 مليون مسجد، وتطرق الكتَاب للقائمة القصيرة في الدورة الثالثة (الحالية) المكونة من 27 مسجد من قائمة طويلة ضمت 201 مسجدا في 48 دولة شارك فيها 119 متخصصا. وأن الدورة الرابعة (القادمة) ستتوسع من محيط الدول الاسلامية لتشمل العالم أجمع. لفت نطري أيضا في كلمة سموه جدلية العمارة والثقافة وأن المسجد له عبقرية تجعله في قلب العمارة الاسلامية كونه المحفز والحاضن للابداعات المعمارية في الجوانب التقنية والانشائية والجمالية التي شهدتها الحضارة الاسلامية عبر أكثر من 1400 سنة.
6- في جزء ترشيح المساجد وتحكيمها أعجبني ما تم ذكره حول الصعوبات التي واجهت عمل الترشيح في دول افريقيا الوسطى وبعض الدول الأسيوية. وكذلك الاستعراض المهني للجنة التحكيم وآليات الوصول للقائمة القصيرة. لم يتبين لي بوضوح معايير الترشيح التي اتبعها ال119 عضوا، وَيَا حبَّذا لو تم سرد المعايير معيارا معيارا من باب الوضوح.
7- المقاربة النقدية، وهي حوالي ١٠٠ صفحة، في نظرتي الأولى عمل رائع ومن الوزن الثقيل. أحتاج اقرأها بشكل أعمق لأعطي رأيا فيها. كان بودي لو تضمن الكتاب جزءا يحكي التطور التاريخي لشكل المسجد منذ مسجد الرسول في المدينة إلى المساجد كما نعرفها الآن.. مثلا متى وأين بنيت أول قبة في مسجد.. متى وأين بنيت أول مئذنة لمسجد.. متى واين تم استخدام الأقواس لأول مرة في مسجد.
8- التعريف بكل مسجد في حدود ١٠ صفحات مع الصور والرسومات والمعلومات الأساسية والشروحات والمراجعة المعمارية ونقاط التميز كان عملا جميلا وشاملا. تبين لي في هذا الجزء أن اشكالية قلة التجديد في المنتج المعماري ربما لا تكون مشكلة بالمطلق فهناك نماذج بالفعل مضيئة.ولكن ربما غير معروفة خارج حدودها الاقليمية. سيكون جميلا لو تم توضيح مدى انطباق كل معيار من معايير الترشيح على كل مسجد في القائمة القصيرة. وكذلك نسبة استخدام المسجد في الأيام العادية وفي أيام الجمع لاعطاء لمحة عن كفاءة التشغيل ومدى تفاعل المجتمع مع المسجد.
9- بما أن الجائزة تراعي الإطار الحضري للمسجد، فأرجو أن تأخذ معايير الجائزة في الاعتبار (فيما لو أنها لم تفعل ذلك) موضوع المشي للمسجد فهو مستحب شرعا، وبالتالي ينبغي ان يكون الاطار الحضري للمسجد يشجع على المشي ويسهم في إيجاد الحلول لتلطيف الظروف المناخية لكل موقع. تهيئة ظروف المشي ستجعل المسجد يحفز النشاط البدني للمسلمين وما يحمله ذلك من تأثير إيجابي على الصحة من خلال تجربة مشي ممتعة تتكرر يوميا وتحضرهم روحانيا لدخول المسجد.
10- المساجد من أدوات القوة الناعمة التي تشكل الهوية وتمنح الحيوية للمدن الاسلامية والمجتمعات المسلمة. وفي رأيي أن المساجد الناجحة في العمران تقرب المسلمين لله أكثر وتجعلهم مسلمين أفضل لأن تأثيرها المعماري يمنحنا تجارب تعزز أحاسيسنا وروحانياتنا وأخلاقياتنا ويساعد على التوازن بين دنيويتنا الزائلة وآخرتنا الباقية. كما أنها تمنح غير المسلمين مسحة جمالية وربما اجتماعية تضيف للمدينة. وبالتالي فعملية تصميم كل مسجد صغيرا كان أم كبيرا ينبغي أن تكون محاولة إبداعية تسعى للإتيان بالجديد الذي يحقق اهداف عمارة المسجد الثلاثة: وهي المرونة (بما فيها الجوانب الوظيفية)، الاستدامة (وتشمل كفاءة التشغيل والموارد المالية والأثر البيئي)، والإبداع (بما فيها الجوانب التقنية والجمالية والرمزية)
11- بما أن هذه الشهور اتسمت بوباء كورونا، وسعي المجتمعات حول العالم للعودة بحذر وتدريجيا للحياة الطبيعية، بما فيها فتح دور العبادة، ربما تنظر الجائزة هل بالإمكان أن تكون عمارة المسجد جزءا من الحل في زمن الأوبئة. مثلا هل هناك مواصفات معينة تقلل مخاطر العدوى؟
واخيرا فإن المسجد بموقعه الحضري وتصميمه المعماري ووظيفته المفردة أو المتعددة يعتبر حاوية. لا أدري إذا كانت مبادرة جائزة الفوزان تنظر أيضا في المحتوى. مثلا اذا لدينا مسجد المستقبل كيف نسمع فيه أيضا خطبة المستقبل؟ أدعو الله أن يبارك في هذا الجهد العظيم الذي تضمنه هذا الكتاب المرجعي، وأن يجعله في ميزان أعمالكم كعلم نافع يُعمل به ويستفاد منه ويؤثر تأثيرا أيجابيا في العالم.
ولَكم خالص التقدير،
فؤاد الذرمان
fuad.therman@aramco.com