بداية، يشرفني أن أتقدم بخالص تقديري وامتناني إلى الأستاذ الدكتور مشاري بن عبدالله النعيم، على دعوته الكريمة للمشاركة في هذه النافذة العلمية القيمة إلى جوار كوكبة متميزة من العلماء والخبراء والمفكرين، مشيداً بالجهود الكبيرة لمؤسسة “جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد”، كونها المؤسسة الفريدة في العالم المعنية بتطور عمارة المساجد، وتعزيز قيمها الاستثنائية المتبادلة في المشرق والمغرب، وتأكيد ملامح وحدتها المعمارية، وإبراز التأثيرات المتبادلة في عمارة المساجد.
وعلى الرغم من القيمة الأثرية المهمة في حركة انتقال التأثيرات المشرقية إلى عمارة المساجد في بلاد المغرب والأندلس، إلا أنها لم تلق الاهتمام والعناية اللازمتين من قبل الباحثين، وذلك لندرة الكتابات التي ترصد المؤثرات المعمارية والزخرفية، التي استمدت أصولها من التأثيرات الوافدة من عمارة وفنون مساجد المشرق الإسلامي، وفنون العمارة ببلاد الأندلس، بالإضافة إلى العناصر المحلية التي اندمجت مع التأثيرات الوافدة على يد المعمار المغربي، والتي تعكس الثراء المعماري والفني المتنوع من حيث التخطيط والعمارة والتغطية والزخرفة، والتي ساهمت بشكل مباشر في إبراز وإجلاء شخصية وعبقرية المهندس والبناء المسلم في تطور عمارة المساجد المغربية.
وقد صار الطراز المغربي في تشييد المساجد على نمط مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، كما تميز الطراز المغربي بخصوصياته من اتساع بيت الصلاة الذي يتكون من بلاطات عمودية أو موازية لجدار القبلة، وصحن مكشوف، وكثرة الأعمدة أو الأكتاف الحاملة للسقوف، بالإضافة إلى الأسقف الهرمية، والمآذن المربعة، والتوسع في استعمال الأقواس المدببة أو حدوة الحصان، وتزيين الجدران بالجص المنقوش مع الاهتمام بالرواق المؤدي إلى المحراب، والاكتفاء بعدد قليل من القباب الصغيرة فوق الرواق الأوسط، وبذلك استمدت المساجد المغربية الجامعة الأولى تصميمها من أول نموذج معماري جمع كل العناصر الأساسية للمسجد متمثلا في عمارة المسجد النبوي الشريف.
كما تتمثل طرز المساجد في المغرب الأقصى في أن جميع عقود البائكات في مقدم المسجد فحسب، أو في مقدم المسجد ومؤخره ومجنبتيه، تسير عمودية على جدار القبلة ، ويكون الرواق الأوسط (البلاطة الوسطي) أوسع الأروقة (البلاطات) وأكثرها ارتفاعا غالبا، ويستثنى من ذلك بعض النماذج التي نشاهد فيها عقود بائكة ( بائكات) رواق المؤخر أو المجنبتين تسير موازية لجدار القبلة، ويعدَُ المسجد الأقصى المبارك في القدس الشريف( 163هـ/ 779م) أقدم نموذج معروف لهذا النمط من التخطيط، وبذلك يكون تخطيط المساجد في المغرب الأقصى قد جمع بين عمارة المسجد النبوي الشريف من جهة، وعمارة المسجد الأقصى المبارك من جهة أخرى.
وقد كان لموقع المغرب الأقصى والظروف التي مر بها، دور واضح في تأثره بالطرق المختلفة في التشييد والبناء، فمنذ أن صار إقليما إسلاميا وتأسست على أرضه دولة الآدارسة، أصبح مقصداً للأسرات العربية الوافدة من القيروان بالإضافة إلى الوافدين من مدن المشرق، وقد حمل الوافدون معهم خبراتهم في طريقة البناء، ومن ثم ظهرت المؤثرات المشرقية في بناء المساجد.
وساعد هذا الاتصال المباشر عن طريق تلك الرحلات في إيجاد قنوات عبرت من خلالها التأثيرات الفنية المغربية إلى عمارة المساجد المشرقية، والتأثيرات المشرقية إلى بلاد المغرب والأندلس، ومن الإنصاف أن نؤكد على فضل المغاربة في إذكاء حركة التأثيرات المتبادلة بين المشرق والمغرب، وذلك نتيجة لابتكارهم ما يعرف باسم الرحلات الحجازية، حيث دونت على أيدي المغاربة والأندلسيين أقدم الرحلات الحجازية، ولهذا جاءت مدونات هؤلاء الرحالة كسجلات ووثائق دقيقة رصدت الجوانب الحضارية في عمارة المساجد في المشرق الإسلامي.
وقد كان هناك تصوير لرؤى حضارية وثقافية، تسجلها عيون واعية وأفئدة صاحية، سواء من الحجاج العابرين أو من المؤلفين المجاورين الذين تطول إقامتهم فيسجلون المظاهر الحضارية في الديار المقدسة، ووصف المعالم الحضارية في البلاد المختلفة كان يشد أنظار الرحالة الحجاج فيصورون رؤاهم وانطباعاتهم، حول ما يرون من مؤسسات علمية وعمائر ومساجد وقصور وصروح تشهد بالتقدم الحضاري. ومن نماذج هذه الأوصاف الدقيقة للمعالم الحضارية وصف “ابن جبير” لعمارة المساجد في بلاد المشرق الإسلامي