عمارة الساجد : لحظات روحانية

ثنائية الحس والمعنى أو المادي والمعنوي تفتح بابا للحوار حول معنى الدنيوي والمقدس وتثير العديد من الأفكار حول “الروحي” أو اللحظات الروحانية التي تمر بالإنسان لتصفي عقله وتسمو بجوارحه.  هذه اللحظات الخاصة التي يتجلى فيها الغائر في نفوسنا ويهمن على كل ما نفكر فيه ليهزم توقنا للتفرد ويذيب كل ما هو نافر في حياتنا.  في رمضان تتجلى هذه اللحظات الخاصة، وفي خضم هذه الأزمة التي نعيشها تصبح هذه اللحظات خاصة جدا.

تثير جائحة كورنا مسألة فلسفية حول دور المسجد، فمكان الصلاة هو أي مكان، لكن تعزيز روابط الجماعة لا يتحقق إلا بالصلاة في المكان المحدد والمعروف لدى مجموعة من الناس.  الصلاة في البيت لها فضائل كثيرة فخير صلاة الرجل في بيته وكذلك المرأة، لكن بالنسبة للرجال على وجه الخصوص الحديث خص السنن الراتبة ولم يخص الفروض، ومع ذلك فإن صلاة الجماعة ليست واجبة لكنها أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.  كل هذه المفاهيم تصب في معنى المسجد ودوره، لأنه من الواضح أن المسجد الذي يشتق أسمه من فعل السجود وهي اللحظة التي يكون فيها المرء أقرب إلى الله وتتمظهر من خلالها اللحظات الروحانية الخاصة، أقول أن المسجد هو لبناء الجماعة والمجتمع، وإلا فالصلاة تقام في كل مكان.

مكان الصلاة هو العنوان الكبير لهذه المبادرة التي تقدمها جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد لكل المسلمين في العالم.  مكان الصلاة خارج حدود المسجد بعد أن أصبحت الصلاة في المسجد غير متاحة بشكل مؤقت بسبب (كوفيد 19).  تهدف هذه الحملة إلى تحويل الأزمة إلى فرصة من خلال فهم معنى الصلاة خارج فكرة المكان والبحث عن اللحظات الإنسانية التي تتجلى فيها العلاقة بين العبد وربه.  أنها “لحظة ابداعية” تغوص في اللحظات الروحية التي يصنعها رمضان وتعزز من فعل الصلاة التي يصنع فيها الانسان مكان خاصا لروحه، ليس بالضرورة ماديا، يربطه بخالقه.  نبحث عن هذه اللحظات الهامة التي تسجل هذا الحدث الغير متكرر الذي جعل من البيت مكانا للصلاة.  أنها لحظات تقترن فيها الروح بالعقل لتصنع “اللحظات الروحية” التي ساعدت في خلقها الأماكن الإبداعية (الحسية والمعنوية) البسيطة.

إنها لحظات تسجل “عمارة الساجد” على حد قول الصديق سليمان الزكري، فهذه العمارة التي تعني بالنفس والروح وتهذبها هي التي تصنع اللحظات التي لا تتكرر حيث تغيب كل المطالب الدنيوية وتتضخم العلاقة مع الله.  عمارة الساجد حالة روحية خاصة ليست بالضرورة أن تتجلى في المسجد بل أنها أكثر ما تتجلى داخل نفوسنا مهما كان المكان الذي نكون فيه.  أننا نبحث في هذه الحملة عن هذه العمارة الخاصة التي قد تنقل الصورة أو الكلمة جزء من معانيها العميقة.

منذ فترة بعيدة كنت احث كثير من الناس على تصميم مصلى صغير داخل المسكن، وربما تكون هذه الأزمة التي نعيشها حافزا لتبني هذه الفكرة.  كنت أرى أن هوية المسكن بالنسبة للمسلم لا تكتمل دون وجود مكان للصلاة.  الكل كان يرى أنه بالإمكان أن يصلى المرء في أي مكان في بيته، وأنا أتفق معهم في هذا، لكن وجود مكان مخصص للصلاة يزيد من الحضور الروحاني للمسكن بأكمله وليس لمكان الصلاة فقط.  طبقت التجربة على نفسي منذ فترة طويلة وخصصت مكانا للصلاة في البيت بالقرب من مكتبي ومكتبتي يوجد بها سجادات مفروشة باستمرار ووجدت أن هذا المكان يمثل لي “الخلوة” في كثير من الأحيان.  لعل هذه الازمة تعيد التفكير في هوية المسكن الذي يجب أن يكون مكانا للصلاة.  فحتى من الناحية الشرعية هناك دلالات واضحة كي تكون الصلاة جزء من ثقافة المكان السكني.

تحث الجائزة على الإبداع في أماكن الصلاة الحسية والمعنوية، وتؤكد على اغتنام لحظات الإلهام التي لا تكرر كثيرا في حياتنا.  إنها لحظات خاصة، خصوصا في شهر رمضان المبارك التي يتفرغ فيها كثير من الناس للعبادة، وعبادة الله في كل مكان.  تسجيل هذه اللحظات وتوسيع نطاقها وتأثيرها يعكس إنسانية المسجد وسعته المكانية والروحية.  القدرة على رصد اللحظات الروحية الخاصة مرتبطة بالتوقيت فهناك لحظات خاطفة يفوتنا تسجيلها وتترك أثرها في نفوسنا فلو استطعنا أن نشارك الآخرين تلك اللحظات قد تقودنا إلى مساحات جديدة تجعلنا أكثر قربا من اللحظات السامية في حياتنا.

قد يثير اهتمامك

All Rights Reserved | Abdullatif Al Fozan Award for Mosque Architecure © 2024

© Al Fozan 2024. All rights reserved.

جميع الحقوق محفوظة |جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد © 2024

جميع الحقوق محفوظة |جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد © 2024