عندما تحدثت عن أهمية “التوقيت” في الصلاة وكيف أن من مواصفات مكان الصلاة المرونة والانفتاح والوضوح وأن الارض جميعا يجب أن تكون مسجدا لأنه يصعب اقامة الصلاة في أوقاتها وفي كل الظروف دون هذه المرونة المكانية المتعددة الوظائف، علق المعماري عبدالرحمن المدالله على هذه الفكرة بأنها “عمارة اللحظة والمكان” فالصلاة تقام على مدار الساعة في كل مكان في الأرض وبالتالي يمكن هنا أن نفهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا” بشكل أعمق فهذه الميزة ليست لمجرد التفضيل بل هي ميزة عملية ضرورية يصعب اداء الصلاة دونها وبالتالي هي جزء جوهري من عمارة المسجد ويجب أن تعبر عن فلسفته الحقيقية. والذي يبدو لي أن هناك “لحظة ساكنة ومكان ساكن” في عمارة المساجد وهي قاعات الصلاة التي نعرف بها المساجد الثابته عبر التاريخ وهناك “لحظة متحركة ومكان متحرك” وهي الاض بكل ما فيها كمان للصلاة في مواقيتها. بالطبع نحن هنا يهمنا الحديث بشكل مفصل عن “المكان الساكن” وكيف يمكن أن نعيد صياغته من جديد لخلق عمارة جديدة لمساجد المستقبل.
عمارة اللحظة والمكان بالمفهوم الفلسفي المعماري قد تشير إلى فكرة الفضاء المتعدد الأغراض، ويبدو أن المسجد عبر التاريخ كان فضاءا ذو وظائف متعددة ولم يقتصر دوره على اداء الصلاة فقط، وبالتالي فإن هذا التعدد الوظيفي يفترض أن يجعل من قاعة الصلاة وما حولها مكانا غير محبوس في وظيفة محددة بل يجب أن يكون مكان لاجتماع الناس، وقد كان مسجد الرسول هو مكان لادارة الدولة حتى عهد الخليفة علي بن أبي طالب واستمر كمكان لاجتماع الناس وفضاء للحوار، وحتى بعد أن افصل مكان إدارة الدولة عن المسجد ضلا متجاورين إلى عهد قريب. فكرة التعدد الوظيفي بمفهومها المعاصر تشير إلى الفضاء المفتوح الذي يسمح بتنوع الوظائف تحت سقف واحد.
قد يجرنا هذا للحديث إلى تصميم المسجد المعاصر والمستقبلي الذي يبدو أنه يتجه للتخلص من الاعمدة والسواري ويوظف التقنيات المعاصرة لتحقيق فكرة الفضاء المفتوح المرن. هذا الحديث حوله خلاف واسع خصوصا لمن يقول أن الاعمدة والسواري يستخدمها كبار السن للاستناد عليها كما أنها تمثل صورة المسجد التقليدي منذ مسجد الرسول في المدينة، وجميع هذه التبريرات لها حلول معاصرة ضمن الفضاء المفتوح المرن. عمارة اللحظة والمكان يفترض أنها تتخلص من العبئ المادي، أي أن المبدأ هو: التخلص من كل العناصر العمرانية والانشائية الغير ضرورية في المسجد من أجل خلق فضاء مرن وحر وخفيف ومفتوح يسمح بالتعدد الوظيفي.
بالطبع المسجد له حرمة وليس كل الوظائف يمكن أن تقام فيه لكن اعتقد أن كثير من الوظائف يمكن أن تقام فيه، ولعلي هنا أربط هذه الفكرة بالاحتوائية والشمولية inclusivenessواقصد هنا أن الاصل في الاشياء الإباحة وأن ما هو محرم أو غير مرغوب فيه عادة ما يكون محدود جدا، وبالتالي فإن “السعة الوظيفية” للمسجد هي الأصل وأن التحول التاريخي في وظيفة المسجد وربطه فقط بشعيرة الصلاة لم يكن تحولا إيجابيا بل أدى مع الوقت إلى تقلص دور المسجد الحيوي في المجتمع وزيادة العبئ الاقتصادي نتيجة للبحث عن مبان وأماكن أخرى للوظائف الأخرى.
الأسئلة المهمة التي نود أن نطرحها هنا هي: لماذا يوجد قناعات لدى كثير من الناس حول شكل المسجد وكيف يجب أن يكون؟ ولماذا هناك ردة فعل لدى البعض نحو مفهوم عمارة المسجد المعاصر التي تريد أن تخرج عن الصورة الذهنية التقليدية؟ وهل من الضروري الخروج عن هذه الصورة وتبني افكار أكثر تعبيرا عن روح العصر؟ وكيف يمكن أن تساهم عمارة اللحظة والمكان في تبني افكار جديدة لعمارة المسجد؟ في حقيقة الأمر مسجد المستقبل يحتاج إلى إجابات نقدية لهذه الأسئلة وغيرها مع أهمية التأكيد أن الحوار حول عمارة المسجد هي ضمن “المباح” المعماري الذي يحاول أن يتتبع كيف نشأت الصورة الذهنية للمسجد والاسباب التي أدت إلى نشوئها؟ وهل من الضروري محاورة هذه الصورة وتغييرها؟