في البداية، أود أن أذكر أن عمارة المساجد متعلقة بالثقافة التقليدية المتخيلة، حتى بعد أاختفاء معظم أساليب البناء التقليدية. كان هذا نتاجاً لإلتباس ماهية المسجد؛ كرمز له معانيه ووظائفه الخاصة المتجذرة فيي الذهن الجمعي في المجتمعات الإسلامية، وبين صورة المسجد البصرية التي ليست بالضرورة أن تجسد مخيلاً ثابتاً وراسخاً لا يمكن تغييره. مع مرور الوقت، ادى هذا الالتباس إلى حالة من الحذر والخوف من المساس بهذه الصورة، بل و صارت تحظى بشئ من قداسة دون استحقاق. كما حاول البعض الربط بين الخشوع والسكينة، وبين الاشكال التاريخية التي تطورت في الماضي. فقد أصبح وجودها عند بعض رواد المساجد من مستلزمات الخشوع. بالتالي أصبح المسجد يفقد نعته، إلا عندما يتلبس الصورة التقليدية التاريخية.
و من ثم لزم علينا طرح توجهاً مختلفاً مبني على استفسارات “ابستمولوجية” ، تحاول أن تعود بالمسجد إلى أصوله التي بدأت منذ 1440 عام تقريبا. فهي أصول مبنية على شروط غير مادية/ معمارية، بل ترجع إلى محددات زمانية و مكانية لا تصح فريضة الصلاة إلا بوجودها. أما عن المكون المادي للمسجد، فقد كان نتاجاً للأحداث المتراكمة والتقنيات المتاحة في المدينة المنورة أنذاك؛ حيث شهدت ميلاد أول مسجد للمسلمين. وأنا هنا أطرح ما يشبه الفرضية النظرية و اطلقت عليها اسم “التراث الموازي”. هي فرضية لا تتناقض بأي حال من الاحوال مع التراث التاريخي، و لكنها تحاول ان تحدد ماهية “تراث المستقبل” أكثر من محاولتها أن تحدد تراث الماضي. ربما بعض يرى المتحفظين في هذا المصطلح إشكالية مرتبطة بمفهوم “التراث” ذاته ؛ أى “الإرث” أو موروث الأحداث التاريخية و الخبرات السابقة. لكن فى حقيقة الأمر، “التراث الموازي” ما هو إلا “تراث افتراضي” يضع رؤية مستقبلية لماهية التراث تاريخي في المستقبل. و هنا يأتى السؤال الذى تطرحه نظرية التراث الموازي فى مجال عمارة مساجد المستقبل : ماذا ستكون عليه عمارة المساجد في المستقبل إذا ما رجعنا لجذور عمارة المسجد و سخرناها لاستحداث خط تارخي افتراضي و التخلى عن الخط التاريخي المعهود؟
ترتكز فكرة التراث المعماري الموازي على نظرية نشأة وتطور وأندثار الأشكال المعمارية عبر التاريخ، وبدايات تولد الأشكال المعدلة منها وتطور الأشكال الهجينة، وفهم سلوك الأشكال المعمارية وإمكانية تأسيس عمارة أصيلة لا تنسخ العمارة التاريخية؛ أى التشبث بالأصول التي قامت عليها العمارة التاريخية، بشرط أن تتخذ مسارا تطوريا غير الذي أتخذته الأشكال المتعارف عليها تاريخيا. تهدف النظرية إلى صياغة تراث للمستقبل مع الاحتفاظ بأصول و جذور المفاهيم والتشريعات التي نتج عنها الأشكال التاريخية والتقليدية وتطويعها لبناء سيناريوهات تصميمية حسب الحاجة وحسب قدرات كل مصمم. و من ثم يصبح منبع واحد لمنتج متعدد الأشكال. النظرية مرتبطة بدراسة أصول الأشكال ومسببات وجودها وتطورها. يقصد بمصطلح ببناء السيناريوهات التصميمية تلك الممارسات العفوية التي يقوم بها المصمم بعد تمرتسه على فهم وإدراك أصول الأشكال، ومن ثم قدرته على اعادة انتاج الأشكال، كونه جزء لا يتجزأ من العملية الإنتاجية الإبداعية للعمارة.
مشكلة التراث المعماري التاريخي هى تسبيق اليقين على النقد والتجريب، بينما يتميز التراث الموازي يرتكيزه على التجريب والفحص والنقد إلى أن يستنتج اليقين المعماري المشروط. التراث المعماري الموازي هو إعادة ولادة حقيقية لعمارة المساجد المستقبلية، واستحداث مسار تاريخى لمستقبل هذه العمارة. فمفموم تلك النظرية أشمل من الإقتصار على نقد لتراث عمارة المساجد التاريخي. مصطلح التراث الموازي هو توجه نقدي، لا يخضع لقيود تراكم النصوص التي اضفت قدسيتها على للأشكال التاريخية، ويستقي من المنابع الاساسية التي ولَّدت الاشكال التاريخية. لذلك هو توجه أصبح ضرورة في الوقت الراهن.
إذا نحن أمام فرضية تحاول نقد مسارات التراث التاريخي التي مرت بها عمارة المساجد، وتحاول أن توجد مسارا مستقبليا مختلفا عن سالفه. والسبب الذي يدعونا إلى ذلك هو؛ أن البيئة التقنية والمعرفية والحرفية التي كانت تنتج الشكل التاريخي للمسجد لم تعد موجودة في الوقت الراهن ،وظهر مكانها نظام مهني مختلف يتطلب مفاهيم وعلاقات جديدة بين كافة الاطراف التي تنتج العمارة. بالتالي، فإن فرضية “التراث الموازي” تعتمد على قطبين أساسين أحدهما ثابت؛ وهو مجموع العناصر الوظيفية التي تحتاجها فريضة الصلاة في المسجد ؛و لها ضوابط شرعية، وأخرى مكانية وزمنية. أما القطب الاخر المتغير والمتجدد، هو مجموع التقنيات والمعارف والحرف التي تتطور في كل عصر وتتفاعل مع الثوابت؛ لتنتج عمارة جديدة للمسجد تعبر عن روح العصر. تفاعل الثابت مع المتحول هو الذي يصنع عمارة متجددة باستمرار، مع الاحتفاظ بالأصالة و العمق.