في بيوت أذن الله ان ترفع

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (النور:36)، هذه الآية الكريمة تأتي مباشرة بعد آية النور (الله نور السموات)، وهو الامر الذي يراه البعض على ان هذا النور ينبع من المسجد، بيت الله، ومركز الراحة والخشوع ومنبع الجمال. هذا الارتباط بين النور والمسجد يفسر تفسيرا نفسيا اكثر منه عمرانيا وماديا لكننا هنا في هذا المقال سوف نتوقف عند الآية “في بيوت أذن الله ان ترفع” وسوف نتناول تاثير هذه الآية على شكل وعمارة المسجد والتفسيرات المختلفة لهذه الآية من الناحية البصرية المباشرة وكيف ساهمت في تطور تيارات تصميمية وجمالية ساهمت في تحديد هوية المسجد المعمارية خلال الأربعة عشر قرن الاخيرة، وكيف ان الرغبة في التعبير عن العلو والسمو الذي يجب ان يكون عليه المسجد ساهم مساهمة مباشرة في تطور المسجد كدار للعبادة له هويته البصرية الخاصة. في البداية يجب ان نشير الى كلمة “ترفع” والتي تعني الارتفاع والسمو وهو معنى مفتوح على العديد من التفسيرات المعمارية التي يمكن ربطها بالكثير من الأمثلة لعمارة المساجد التي تطورت خلال التاريخ الاسلامي وهو ارتباط فرضته الحاجة المجتمعية والسياسية وساهمت فيه الحالة الاقتصادية بشكل واضح.

لفت نظري الصديق الدكتور حمد العليان (وهو مستشار سابق في وزارة الشؤون الاسلامية في المملكة العربية السعودية) الى ان معنى الآية هو ان تكون المساجد مرتفعة عن الارض اي ان تبنى على مساطب تجعلها مبان بارزة وواضحة للعيان،. والحقيقة ان هذا التفسير قد لا يتوافق مع عمارة المساجد الاولى، لكن سرعان ما اصبح رفع المساجد عن الارض يشكل ظاهرة معمارية مبكرة خصوصا في المساجد الكبيرة في الحواضر الاسلامية الكبرى مثل جامعي ابن طولون والسلطان حسن في القاهرة وجامع “حضرة امام” في طاشقند باوزباكستان والجامع الكبير في دلهي التاريخية في الهند، والأمثلة كثيرة جدا. اي ان مفهوم رفع بناء المسجد وتمييزه عن باقي المباني المجاورة تطور مهنيا وأصبح جزء من “ذهنية” عمارة المساجد في الحضارة الاسلامية منذ وقت مبكّر.

ويبدو ان خاصية ارتفاع مبنى المسجد كتوجه رمزي اثرت كثيرا على اختيار مواقع المساجد في العديد من المدن والبلدات على الرقعة الجغرافية التي امتدت عليها الحضارة الاسلامية. لقد اصبح المسجد يتخذ مواقع مرتفعة ويبني فوق هضاب تجعله اكثر علوا من باقي المباني المحيطة به. هذا التوجه الرمزي يمكن مشاهدته في جميع البلدات والمدن التركية وهي امتداد لتقليد عثماني استمر لأكثر من خمسة قرون. وعندما أراد محمد علي، حاكم مصر في النصف الاول من القرن التاسع عشر، بناء مسجده وضعه في اعلى القلعة المبنية على جبل ليكون مشاهد من كل بقعة في القاهرة. مفهوم العلو والسمو اصبح جزءا من رمزية المسجد رغم ان المسجد بناء عملي مرتبط بحياة الناس اليومية ويفترض ان يعزز من سهولة وكفاءة الاستخدام بالنسبة لكبار السن وارتفاع المسجد عن الارض او وجوده في أماكن مرتفعة يزيد من صعوبة استخدامه. من الواضح ان للجانب الرمزي اهمية تفوق الجانب الوظيفي وهذا جعل بعض الفئات في المجتمع تتقبل هذه الرمزية وتكيِّف نفسها للتعامل معها حتى لو واجهت بعض الصعوبات.

على ان فكرة الارتفاع لم تتوقف عند الصورة الخارجية لعمارة المسجد ولم تؤدي الى رفع المسجد عن الارض واختيار مواقع مرتفعة لبناءه فحسب بل انتقلت الى الفضاء الداخلي والى بعض عناصر المسجد، فمثلا شكلت المآذن رسالة رمزية تشير الى الارتفاع والسمو وغلبة المسجد كبناء على ما سواه من مبان، وظل هذا المبدأ الى يومنا هذا. ويبدو ان الحاجة الى تمييز المسجد كبناء كانت هاجسا مستمرا لدى جميع المجتمعات الاسلامية حتى البسيط منها ومحدود القدرات الحرفية والاقتصادية. واذا كانت العناصر المكونة للمسجد التي يمكن مشاهدتها والتفاعل معها كانت سباقة في التعبير عن مبدأ الارتفاع الا ان الامر انتقل الى قاعة الصلاة نفسها التي اصبح ارتفاعها جزءا من الثقافة المعمارية للمسجد وصرنا نرى مساجد صغيرة المساحة لكنها ذات ارتفاعات داخلية عالية جدا. وفي اعتقادي ان احد مبررات وجود “القبة” هو الرغبة في زيادة ارتفاع قاعة الصلاة، ويمكن ملاحظة هذا التوق في مساجد القبة المركزية التي تطورت في وسط اسيا وانتقلت الى مواقع كثيرة. احد الأمثلة الملفتة للنظر هو الأسقف المرتفعة في مساجد الحارات في بخارى وسمرقند وخيوة في اوزباكستان مُلفت للنظر فهي مساجد صغيرة لا تزيد مساحتها احيانا عن ٦٠ متر مربع لكن ارتفاع اسقفها يصل الى ١٢ متر. هاجس الارتفاع اصبح جزء من عمارة المسجد وشكل في كثير من المناطق عبر التاريخ الاسلامي حالة ثقافية معمارية واضحة للعيان.

ومع ذلك يجب ان نقرر ان فكرة الارتفاع انتقلت من المعنى المجازي الروحي الذي يرتبط بالذكر والعبادة وتعظيم الخالق سبحانه وتعالى الى التعبير عن هذه المعاني من خلال العمارة المادية التي يمكن ان تعكس السمو رمزيا ولكن من خلال عمارة مشاهدة يمكن تفسيرها بأشكال مختلفة. البعد الذي اتخذته عمارة المسجد نتيجة لمبدأ “الارتفاع” ساهم بشكل واضح في التنوع البصري وتنوع طرز عمارة المسجد نتيجة للتفسيرات المختلفة للآية الكريمة، ولعل هذا يقودنا للتفكير بشكل مختلف في عمارة المسجد المستقبلية على ضوء الافكار الجديدة التي يمكن ان يقدمها تفسير مفهوم الارتفاع في المسجد.

قد يثير اهتمامك

All Rights Reserved | Abdullatif Al Fozan Award for Mosque Architecure © 2024

© Al Fozan 2024. All rights reserved.

جميع الحقوق محفوظة |جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد © 2024

جميع الحقوق محفوظة |جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد © 2024