ربما لا يكون هذا المقال مقالا علميا على الصعيد البحثي، إنما هو انعكاس لملاحظة وتأمل أحد المشاهد الذي من شأنه تغيير الفكرة المعمارية المتعارف عليها للمسجد، ومع ذلك فهو يعتبر مكملاً فكرياً لسلسلة مقالات “المسجد والفراغات الفاضلة”.
الفراغات الفاضلة (اليوتوبيا): لا تعرف بهذا المصطلح إلا عندما تلبي احتياجات الفرد ورغباته الداخلية، فهي أعمق من أن يكون الفراغ ناجح أو مريح، حيث يصل درجة العمق إلى أن يشعر المستخدم بالاكتفاء الداخلي، والراحة اللاشعورية. المشهد بدأ في حديقة عامة عندما سحب شاب سجادة من داخل صندوق كُتب عليه مصلى متنقل، بعد بضع ثواني تحول الحيز الفراغي من مكان عام إلى مصلى، يمثل هذا المشهد المعنى العميق لنظرية تحول الفراغ إلى مكان، فالسجادة كعنصر ليس لها أي قدسية وإن تم استبدالها بأي عنصر أخر لما شكل فارق، ولكن تخصيصها للصلاة أضاف لها أهمية لدى المصلي، ويرجعا هذا الابتكار إلى تعميم فكرة سجادة الصلاة المعتادة، فالرغبة الداخلية للمستخدم لأداء الصلاة تحول السجادة من سجادة عادية لسجادة صلاة، وتحول الفراغ الى مكان مقدس للصلاة، لذلك تحول الفراغ إلى فراغ فاضل (يوتوبيا) في هذه اللحظة نتيجة لتغيير الوظيفة الأساسية له لوظيفة نتجت عن الرغبة الداخلية واحتياج المستخدم.
قد تكون هذه الفكرة مألوفه للبعض حيث تستخدم سجادة الصلاه في البيوت، وفي الخلاء، وغيرها من الأماكن العامة، إلا أن إعطاء الفكرة اسم “المصلى المتنقل” يعطي للعلماء والمعماريين الضوء الأخضر لتطوير هذه الفكرة والابتكار فيها، وقد ظهر بالفعل التطور من مسجد متنقل داخل كونتينر، ومن ثم داخل عربة نقل كبيرة، وصولاً إلى صندوق (المصلى المتنقل) في الأماكن العامة. وفكرة الصندوق بحد ذاتها عجيبة حيث تحول المستخدم بشكل عفوي ومن دون علمه إلى معماري يصمم مكان صلاته بنفسه، ويعيد تصميم الفراغات الخارجية بالتحكم في طول السجاده وعدد الصفوف وغيرها، ويطبق نظرية الفراغ والمكان بحرفية.
نلاحظ هنا أن عمارة المساجد، وعمارة الفراغات الفاضلة (يوتوبيا) تتقاطعان عندما يجتمع الفراغ، والوظيفة، والزمن لتلبية رغبة المستخدم وتشكيل المكان.
في القرن الماضي بدأ إيقاع الحياه في تسارع عجيب، وبالتالي كانت الإجراءات السريعة ملحة للتعامل مع هذا التسارع. كان التنقل ضروريًا ؛ كما هو الحال في الاختراعات مثل المنازل المحمولة، والمطعم المحمول، والهواتف الخلوية وغيرها، وفكرة كفكرة المسجد المتنقل لا تزال خام ومثيرة للجدل وتدعو للتساؤل كيف يمكن تطويرها في المستقبل مع هذه الثورة التكنولوجية؟ ربما يتجه العالم نحو المساجد الرقمية كما ذكرها الدكتور هاني الهنيدي في محاضرته “مسجد المستقبل”، فيمكن للمسجد توسعة نفسه وتقليص حجمه بناءا على عدد المصلين باستخدام الجدران الرقمية. كما يمكن ايضا ان يدخل المسجد عالم الواقع الافتراضي حيث يمكن ان يتكون المسجد افتراضيا وقت الصلاه ويختفي بعد انتهاء الوقت. ويمكن أن يصل الحال إلى الاستغناء عن المعماريين في مجال عمارة المساجد. كل هذه تأملات وأفكار تدعو للدهشة قد تغير الفكرة المتعارف عليها للمسجد إلى الأبد.
العالم الرقمي أصبح مسيطراً على كل شي من حولنا وأصبح كل شي له مثيله بالعالم الافتراضي، وهذا قد يشمل عمارة المساجد في القريب العاجل، وهذا يمثل ثورة في عمارة المساجد، فالمستخدمين أصبحوا بشكل أو بأخر معماريين، والمساجد أصبحت بلا حدود، والأفكار العالمية الجريئة بدأت تدخل عالم عمارة المساجد، فهل سنشهد اليوم الذي نصلي فيه بمساجد رقمية بالكامل!