سوف اعيد موضوع هذا المقال إلى مراجعات العقل العربي التي قام بها المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي تناول “النقل” والعقل” في محاولته للأسس التي ارتكز عليها تطور العقل العربي خلال الأربعة عشر قرنا التي تمثل تاريخ الحضارة الإسلامية، وفي اعتقادي أن العودة للأسس المنهجية التي شكلت طرق التفكير وأنتاج الأفكار والأشياء في الحضارة الإسلامية قد يساعدنا كثيرا على فهم الكيفية التي تطور بها شكل المسجد ولماذا أستقر هذا الشكل لقرون عدة دون تطوير ظاهر يمكن التوقف عنده. فنحن نعتقد أن المساجد الأموية المبكرة خصوصا المسجد الأموي شكلت التقلة الانوعية الكبرى التي مثلت تطورا عقليا إجتهاديا أحدث هوية جديدة لعمارة المسجد لم تكن معروفة من قبل، لكن عمارة المسجد بعد ذلك وقعت في فخ التقليد مع إجتهادات محدودة جدا.
في البداية سوف نتطرق للمفاهيم الأربعة الأساسية التي مثلت على الدوام معايير إنتاج الافكار في الحضارة الإسلامية هذه المفاهيم هي: التقليد، الإجتهاد، العقل، النقل. والتقليد يمثل أقصى درجات الالتزام بما أنتجه السلف من افكار ونصوص ومنتجات وأشكال وهو مفهوم يرتبط بذهنية النقل التي ترى في النص وتفسير النص والأشكال المادية التي تم انتاجها وتناقلها عبر الاجيال هي المصدر الوحيد للأفكار. هذه المدرسة لا تشجع الاجتهاد وإعادة تفسير المصادر الأصلية بل هي في جوهرها ملتزمة بما قام به المفسرون الأوئل للنصوص وما أنتجوه من أشكال. يقابلها هذه المدرسة مفهوم الاجتهاد الذي يوظف الظروف الزمنية والمكانية ويمكن العقل من تفسير النصوص وانتاج الاشكال حسب أنماط الحساة والتقنيات التي يمثلها عصر ما. من وجهة نظرنا أن تاريخ عمارة المساجد يعكس بوضوح هيمنة مدرسة التقليد والنقل وأن الاجتهاد كان هامشيا حتى نهاية القرن الثامن عشر ثم بدأت محاولات اجتهادية “تصادمية” تحتاج إلى دراسة وفهم لأنها تعبر عن حالة من التململ من هيمنة الماضي بسلطته النقلية/ التقليدية.
من البديهي أن سلطة النقل رسخت صورة المسجد المتكررة، فمن المعروف أن “الثقافة التقليدية” لديها قدرة على صناعة النماذج المتكررة والمتحدرة زمنيا وهو ما رسخ الصورة المتعارف عليها تاريخيا للمسجد وبالتالي لم يكن “للثقافة الفردية” أي مساهمات فعلية، إذا ما اعتبرنا أن الاجتهاد عادة ما يكمن في قدرة الافراد على الابتكار والتجديد وإشاعة هذه الافكار الجديدة في المجتمع. عمارة المسجد على وجه الخصوص حضيت بهيمنة خاصة للصورة التقليدية التاريخية، بل أن البعض صار يربط الاحساس بالروحانية بتدوير شكل المسجد بالعناصر المعمارية التاريخية، وفي هذا خلط كبير بين “المادي المحسوس” وبين “الاحساس المعنوي”. مفهوم الروحانية والخشوع لا يمكن ربطه بالعناصر المعمارية، إلا من وجهة نظر احتمالية. إذا نحن أمام سلطة تقليدية نقلية مهيمة على الصورة الذهنية للمسجد، وهذه الصورة تمثل “سجن كبير” لصورة المسجد وأسلوب عمارته حتى اليوم، لكن دون شك ما حدث خلال القرنين الأخيرين غير كثير من المفاهيم حول هذه الصورة.
السؤال المهم هو: هل نحن الآن في مرحلة الاجتهاد وبناء الثقافة الفردية التي تنتج أشكال جديدة للمسجد؟ وإلى أين يمكن أن تبتعد بنا هذه الثقافة الجديدة عن العمارة التاريخية؟ لا أحد ينكر أنه في الآونة الأخيرة هناك تململ واضح من الصورة المعمارية النمطية المعاصرة التي ينتج بها المسجد والتي نتجت في الأصل عن الخلل الكبير الذي واكب النموذج التاريخي خلال المئتي عام الأخيرة الذي تحول إلى نموذجا مهجنا وغير مستقر. هذا الخلل عمق انفصال المسجد عن بيئته المحيطة على المستوى الفراغي والبصري على عكس النموذج التاريخي المتناغم مع بيئته حتى وإن كان متكررا، وبالتالي فإن أي خلل في أسلوب انتاج العمارة غالبا ما يؤدي مع الوقت إلى ابتعاد المنتج عن “أصوله التاريخية” وهذا ما حدث مع المسجد وكان لزاما في هذه الحالة أن يتم العمل على بناء صورة جديدة تتناسب مع أساليب العمارة المعاصرة والمستقبلية تجعل المسجد أكثر تحررا من النمطية.
يجدر بنا أن نثير مسألة كيف سيكون شكل المسجد وفق هذه التصورات، وماذا يفترض من الممارسين المعاصرين عمله من أجل تطوير توجها فكريا جديدا مبنى على الاجتهاد وتمكين التقنيات المعاصرة لانتاج عمارة للمسجد تعبر عن روح العصر باستمرار. بالتأكيد هذا التوجه سيحرر المسجد من نمطيته التاريخية التي صنعت منه شكلا مهجنا وغريبا في نفس الوقت لكنه توجه لا يمكن أن يفك ارتباطه بالاصول التي تحكم المسجد وتحدد ماهيته، وبالتالي فإن هوية المسجد ستبقى وإن كانت ستأخذ أبعادا وأشكالا مغايرة عن الصورة الذهنية المرتسمة في أذهان الكثير.