أحد المشاكل الرئيسة التي يواجهها المسجد هي “الإستدامة المالية”، ويمكن هنا أن نطرح تصورا جديدا حول هذا الموضوع إلهام الذي يهدد مستقبل أكثر من 3.6 مليون مسجد حول العالم حيث أن أغلب هذه المساجد لم تتطور كي تكون “مؤسسات” مستقلة وذات هوية مالية واضحة، ويبدو أن هذا الموضوع على وجه الخصوص هو الذي يدخل عمارة المسجد في طريق صعب ويجعل المسجد تحت تهديد الإعتماد على موارد خارجة ملكيته تجعله يتدهور مع الوقت لعدم وجود مصادر إنفاق واضحة تضمن بقاءه وتشغيله وصيانته. فكرة تحول المسجد، كل مسجد، إلى مؤسسة مستقلة ذات إستقلالية مالية، قد تكون فكرة صعبة التطبيق، لأن الإشكالية هنا إدارية ورقابية ولا يوجد مؤسسة مستعدة للقيام بهذا الدور الصعب لكنها ممكنة خصوصا مع التطور الكبير في التقنية التي يمكن من خلالها تطوير أفكار تربط جميع مستخدمي المسجد بنظام افتراضي واحد قد يساعد في توحيد جهودهم وتوجهاتهم.
إن البحث عن المصادر المالية التي تجعل من المسجد مستقلا ماليا غير واضحة وغير منظمة وهذا في حد ذاته أهم العوائق التي تحد من تطور عمارة المساجد في العالم، والفكرة التي ندعو لها تحاول أن تعالج هذه الإشكالية الغير منظورة والغير مشخصة بشكل دقيق وذلك من خلال نقل المسجد من حالة الرعاية إلى حالة الإستقلال المؤسسي. ورغم أن طرح فكرة المسجد كمؤسسة تبدو غريبة بعض الشيء إلا أنه من الضرورة التفكير خارج الصندوق فيما يخص تشغيل وإدارة المسجد في المستقبل.
لقد تنبه المسلمون الأوائل لأهمية الإستدامة المالية للمسجد لذلك وضعوا له الأوقاف وحاولوا تنظيم عملية التشغيل الذاتي بشكل كان أقرب إلى الملكية الشخصية فقد كانت المساجد مرتبطة بالأسر التي تسكن الحارات وتسمى بأسمائها، وكانت هذه الأسر ترعاها وتنفق عليها والمساجد الكبيرة التي كان يبنيها الحكام والوجهاء كانت تجرى لها الأوقاف وبالتالي كان هناك نظام مالي تشغيلي واضح يعنى بالمساجد لكن هذا النظام لم يتطور للأسف إلى عمل مؤسسي، ويبدو أن بقاء الوقف Endowment على صيغته التقليدية ساهم كذلك في بقاء المسجد دون لأن يتحول إلى مؤسسة مستدامة تعتمد على مواردها المالية الذاتية. المشكلة بدأت تظهر بوضوح عندما بدأ يختفي المجتمع التقليدي وبدأت الزيادة الكبيرة في إعداد المساجد وفك الإرتباط بينها وبين الأسر التقليدية التي كانت تديرها وتعتني بها وقيام الدولة بهذا الدور المرهق والمكلف. هنا بدأت تظهر الحاجة إلى عمل مؤسسي متكامل يكفل للمساجد مصادر مالية مستدامة تساهم في تشغيله وصيانته.
لو عدنا إلى طبيعة المسجد الوظيفية سوف نجد أنها طبيعة مجتمعية وتعتمد كليا على وجود جماعة محددة من الناس مرتبطة بالمسجد وتستخدمه بشكل دائم وغالبا ما تسمى “جماعة المسجد” ويفترض أن هذه الجماعة تساهم في تشغيل المسجد، ولكن هذه المساهمة في الوقت الراهن اختيارية وليست جزء من المسؤولية الفردية لكل عضو من الجماعة نتيجة للإ نفصال بين المسجد الذي تديره الدولة وبين جماعة المسجد التي تستخدمه. هذا الإنفصال ساهم في الوقت المعاصر في تحول المسجد إلى عبئ على الدولة بدلا من أن يتحمل مسؤولية تشغيله الناس الذين يستخدمونه. في اعتقادنا أن هذا الأمر أحدث تباعدا مع الوقت بين المجتمع والمسجد على مستوى التشغيل وبذلك إختفى التوجه إلى التشغيل الذاتي كليا وأصبح المسجد دون استدامة مالية.
الفكرة التي نطرحها في هذا المقال تثير مسألة الإستدامة المالية للمساجد عن طريق إعادة العلاقة بين المسجد والناس المستخدمين له بشكل دائم (المجاورين) ولكن عن طريق تحوله إلى مؤسسة مستقلة، أي أن يصبح كل مسجد له هويته المالية والإدارية الخاصة به ويتم تعيين الإمام وعدد من أفراد الجماعة كمجلس إدارة لهذه المؤسسة. ومع ذلك يجب أن نؤكد أن الشكل المؤسسي للمسجد لن يكون موحدا وستكون هناك فروقات بين مساجد الحارات والجمع والمساجد المركزية ولكن مبدأ العمل المؤسسي يجب أن يكون حاضرا في كل الأحوال. ما يهمنا هو أن يتحول المسجد من حالة الإعتماد على معونة الدولة إلى حالة الإعتماد على الموارد الذاتية. ويمكن في هذه الحالة فتح الباب التبرع لتطوير أوقاف استثمارية للمسجد تنمو بإطراد. هذه الفكرة ليست خيالية أو أنه يستحيل تطبيقها ولكنها قد تحتاج تغيير في الجهاز الرقابي والإداري الخاص بالمساجد والأوقاف للخروج من حالة التقليدية التي هو عليها إلى أسلوب إداري ورقابي معاصر يتناسب مع حاجة المسجد الراهنة.