في البداية يجب أن نقول أن عمارة المساجد تقع بين ثلاث إشكاليات رئيسية، الأولى: هي أن بناء المسجد له أهمية كبيرة من الناحية الثقافية والوظيفية، وعملية بناء المساجد مستمرة لأن المسجد ليس فقط دارا للعبادة بل هو مبنى مرتبط بالحياة اليومية ويؤمه الناس خمس مرات في اليوم إضافة لكونه مكانا لكثير من النشاطات الاجتماعية والثقافية والتعليمية. الإشكالية الثانية: هي أن عمارة المساجد لم تتطور حول العالم لتعبر عن هذا الدور المهم الذي يلعبه المسجد في الحياة العامة وبالتالي فإن المنتج المعماري للمساجد على مستوى العالم خلال القرنين الأخيرين لا يعكس القيمة الكبيرة للمسجد في المجتماعت الإسلامية. الإشكالية الثالثة: هيمنة الصورة التاريخية لعمارة المسجد على الأذهان في كثير من الدول ذات الغالية الإسلامية والرفض الداخلي لأي تغيير في هذه الصورة وبالتالي إجترار الصورة التاريخية بكل ايجابياتها وسلبياتها وبكل نمطيتها. هذه الإشكاليات تمثل حالة من التناقض الذي يحتاج إلى تبني مبادرات مهنية وفكرية يتم عن طريقها “تعديل” التوجه العام في عمارة المساجد حول العالم، فبين الانتشار الكبير للمساجد في كل مكان على هذه الارض وبين الاهمال الكبير لكيفية تصميم وبناء هذا المبنى المنتشر تكمن أزمة عمارة المساجد المعاصرة.
الدورة الثالثة لجائزة عباللطيف الفوزان لعمارة المساجد تبحث في هذه الإشكاليات من ناحية التوزيع الجغرافي للمساجد في الدول ذات الغالبية الاسلامية ونوعية المنتج المعماري للمساجد في تلك الدول كما أنها تطرح سؤالا جوهريا حول “شكل المسجد”، هل هو ثابت أم متحول؟ وماذا يعني “مسجد المستقبل” على وجه التحديد؟ في البداية يجب أن نؤكد على أن القائمة الطويلة التي ستعلن في منتصف شهر يناير 2019م هي محاولة لاختيار أفضل الممارسات المعاصرة في عمارة المساجد في الدول التي شملتها هذه الدورة، وبالتالي فإن ما ستقدمه هذه القائمة لا يعبر عن واقع عمارة المساجد في هذه الدول بقدر ما سيعبر عن أفضل الحالات الموجودة في الوقت الراهن، أو التي تم الوصول لها، والتي تعكس عمارة المساجد في هذه الدول بعد عام 2000م. كما أن الجائزة حددت اهدافها وتوجهاتها الفكرية من خلال تركيزها على “مسجد المستقبل” وما يعني ذلك من تغير في الصورة التقليدية لعمارة المسجد، أي أن القائمة الطويلة كانت خاضعة لمعايير الاختيار للمساجد التي تتناسب مع التوجهات المهنية والفكرية التي تنادي بها الجائزة.
وبالتالي فإن الحوار حول عمارة المساجد ستظل مستمرة وستحمل ابعادا متعددة حتى بعد اختيار القائمة الطويلة.
مبدئيا، المعايير التي تم وضعها للاختيار جعلت من بناء القائمة الطويلة أمرا في غاية الصعوبة، وزاد الأمر صعوبة أن هذه الدورة مخصصة للدول الإسلامية، وأغلب هذه الدول تفتقر لبنية مهنية معمارية يمكن من خلالها الوصول للمساجد المبنية والاختيار من بينها. في دول وسط وغرب أفريقيا وفي دول وسط آسيا لا توجد بنية تحتية مهنية توثق للعمارة ويصعب الوصول لأمثلة تناسب معايير الجائزة، وبالتالي فإن الدرس الأول الذي تعلمناه من هذه الدورة هو البدء فورا في بناء قواعد معلومات متكاملة لعمارة المساجد على مستوى العالم حتى نستطيع في المستقبل اختيار المشاريع التي تعبر فعلا عن افظل الممارسات في عمارة المساجد. ومع ذلك يجب أن نقول أن هناك إشكالية كبيرة كذلك في الدول العربية مثل مصر وليبيا والجزائز وتونس والمغرب وموريتانيا ودول القرن الأفريقي (الصومال وجيبوتي وأريتريا)، وكذلك الدول العربية في آسيا خصوصا العراق وسوريا وفلسطين، وبالتالي فإن مهمة الجائزة ليست سهلة لأن الوصول للأمثلة التي يمكن أن تعبر عن عمارة مسجد المستقبل مازالت غائبة عن المجتمعات التي يفترض أنها مهتمة بعمارة المسجد ويمثل جزء من ثقافة الحياة لديهم.
في الأسابيع القادمة سوف نقدم سلسلة من المقالات النقدية التي ستتناول المساجد في القائمة الطويلة بشكل عام في كل دولة والتوجهات المعمارية والتقنية التي تميزها وسنحاول أن نجري بعض المقارنات التي تبين مناهج التفكير المعماري المرتبطة بعمارة المسجد في الدول الإسلامية في العقدين الأخيرين من القرن الواحد والعشرين. كما أنها ستقدم تصورا عن الحالة المهنية العامة في العمارة في هذه الدول. الهدف هو وضع تصور عام عن الكيفية التي يمكن من خلالها احداث تغيير في مسار التفكير في عمارة المساجد على مستوى العالم من خلال تشخيص المشاكل التي تعاني منها المجتمعات المهنية المنتجة للمساجد.