في منطقة عزبة النخل، وأمام محطة مترو الأنفاق للقاهرة الكبرى، يعرف بإسم الجامع الكبير، تم بنائه بالتبرعات الخيرية لآهالى عزبة النخل والمناطق المحيطة بها منذ عام 2004 وحتى وقتنا هذا، بدأ التصميم فيه عام 2009 وحتى 2017.
عزبة النخل (أرض النخيل)
عزبة النخل وهى منطقة تتسم بالزراعة نشأت على أطراف القاهرة منذ آواخر القرن التاسع عشر، واشتهرت بأشجار النخيل حتى عام 1960 ومنها اشتق اسمها، ثم تحولت عمرانيا إلى أن وصلت لوضعها الحالى واحدة من أكثر مناطق القاهرة كثافة سكانية وأكثرها ازدحاما وضجيجا يتسم عمرانها بالعشوائية. وموقع المشروع تحديدا هو أكثر منطقة فى عزبة النخل إزدحاما وصخبا حيث الكثافة السكانية والمباني العالية، وحركة السيارات الكثيفة، مواقف لسيارات النقل الصغيرة المعروفة بالتوك توك ،ومحطة قطار المترو القاهرة الكبرى.
في عام 2003 م، قامت الحكومة وبناءا على خط التنظيم العمراني الجديد للمنطقة بإبلاغ القائمين على مسجد المحطة القديم ( حوالي 200 م2) بأن المسجد القديم يقع ضمن خط التنظيم وأنه سيتم هدمه عاجلا أو آجلا. (وهو المسجد الذي قامت ببنائه الأميرة نعمت، وهي إحدى أميرات العائلة الملكية في مصرفي ذلك العهد،عائلة محمد على باشا) .ومنذ ذلك الحين بدأ التفكير في بناء مسجد بديل له، وفي 2004 م ،تأسست جمعية خيرية بإسم (جمعية الجامع الكبير)، كما تم فتح حساب بنكى لها في أحد البنوك الإسلامية في مصر ليوضع فيه تبرعات الأهالي لبناء مسجدهم الجديد. استغرقت عملية جمع التبرعات سنوات طويلة لتجميع مبلغ لشراء أول قطعة أرض لبناء المسجد وكانت مساحتها حوالى 200م2 ، ثم توالت عملية شراء الأراضي الملاصقة لها على مدار خمس سنوات متتالية إلى أن بلغت مساحة الأرض المخصصة للبناء حوالى 1500م2،وهى مساحة مناسبة للبدء في تحقيق حلم أهالي المنطقة ببناء جامع كبير لهم. في ذلك الوقت قررت الجمعية البدء في عملية التصميم وتحديدا في عام 2009 م.
التوسع الأفقي للمسجد كرؤية مستقبلية
كان لدى مجالس إدارة جمعية المسجد الكبير المتعاقبة «منذ تأسيسها عام 2004» رؤية مستقبلية، تتمثل في التوسع الأفقي لزيادة مساحة المسجد – كلما أمكن ذلك – عن طريق شراء الأراضى المجاورة للمسجد التى يتم طرحها للبيع. وهذه الرؤية لها وجاهتها نظرا لندرة الأراضي المتاحة بالمنطقة فأي أرض أو بيت سيتم طرحه للبيع سيتم بناء برج عالي على قطعة الأرض المخصصة له ومن ثم تنعدم فرصة التوسع المستقبلي حتى وإن امتلكت الجمعية أموالا مستقبلا فلن تجد الأرض التي ستبنى عليها المسجد. وقد كان لهذه الرؤية المستقبلية عظيم الأثر في زيادة رقعة الأرض المخصصة للمسجد والتى كانت تزداد تباعا كلما تمكنت الجمعية من شراء قطعة أرض وضمها لمسطح المسجد، إلى أن وصلت المساحة المخصصة للمسجد مؤخرا لحوالى 2700 م2. توالت عملية شراء الأراضى لتوسعة المسجد وبشكل غير منتظم والتى كانت ترتبط بشكل أساسي بما يتم عرضه من الأهالى من أراضى للبيع. انعكست عملية توسع الأرض المضافة للمسجد على مدى أكثر من أربعة عشر سنة (أي قبل بداية عملية التصميم بسنوات وحتى عام 2015 م) على تغيير شكل أرض المسجد ومساحته، مما تطلب الأمر منذ اللحظة الأولى مراعاة مرونة تصميم المسجد بحيث يستوعب بسهولة أي توسعات مستقبلية ومراعاة خلو ضم تلك التوسعات من أي معوقات في التصميم كعناصر الخدمات والسلالم والمصاعد وغيرها، الأمر الذي شكل تحديا تصميميا كبيرا للمصمم المعماري.
التحديات التصميمية الخمسة
خمسة تحديات تصميمية، هي تلك التى تعامل معها المصمم لتمثل فى مجملها منهجية شمولية ارتكزت عليها فكرة تصميم الجامع.
التحدي الأول: وهو مدى وكيفية استيعاب الموقع للبرنامج الوظيفي للمشروع الذى حدده المالك، والمتمثل في مسجد سعته الاستيعابية من 4500 إلى 5000 مصلي، عدد 2 دار مناسبات يمكن ضمهما ليصبحا قاعة واحدة كبيرة، ومركز طبي يشمل عيادات طبية ومركز للأشعة ، ومعمل للتحاليل الطبية، مع توفير الخدمات اللازمة لكل من هذه الوظائف، وهو بلا شك برنامج وظيفي ضخم بالنسبة لمساحة وموقع الأرض المخصصة للمشروع.
التحدي الثاني: وهو نابع من مفهوم تصميم المسجد نفسه كمكان للعبادة يتسم بالهدوء والسكينة ليساعد المصلين على الخشوع في صلاتهم فى منطقة تعد واحدة من أكثر مناطق القاهرة كثافة سكانية وإزدحاما وصخبا.
التحدي الثالث: وهو نابع من الشكل غير المنتظم لقطعة الأرض المخصصة للمشروع ومرونة التعامل مع الأرض بما يسمح بإستيعاب إمكانية ضم مساحات جديدة للتوسع المستقبلي، بما يتماشى مع رؤية المالك (جمعية المسجد الكبير) بالتوسع الأفقي كرؤية للتوسع المستقبلي كما سبق إيضاحه. وتتمثل المرونة هنا في دقة التوزيع الوظيفي لبرنامج المشروع أفقيا ورأسيا، وحسن إختيارأماكن المداخل المختلفة وعناصر الحركة والخدمات بما يخدم البرنامج الحالي وبما لا يتعارض مع التوسع المستقبلي عند ضم مساحات جديدة للمسجد، حيث تغير شكل ومساحة وحدود الأرض ست مرات منذ بداية التصميم فى عام 2009 وحتى 2015. وهو ما شكل اختبارا جيدا وتحديا كبيرا للتصميم ومرونته.
التحدي الرابع: وهو إستحضار ذاكرة المكان الجميل لمنطقة عزبة النخل والتى كانت تتمتع بالهدوء والجمال وتشتهر بأشجار النخيل والتى منها إشتق اسمها، وهنا تكمن شمولية العمل المعماري والعمراني وأهمية الإطارالزماني والمكاني وتفاعله مع الواقع الحضاري والإجتماعي المصاحب. فشمولية العمل المعماري قد تجاوزت كونه وظيفة مجردة خالصة منفصلة عن تطلعات الناس وتفاعلاتهم وذاكرتهم، وإنما تسعى إلى تلبية إحتياجاتهم الوظيفية، وفي الوقت ذاته تصيغ إبداعا جماليا له قيمته البصرية والتشكيلية. وقد علمني أستاذي د محمد جبر، أستاذ العمارة بهندسة عين شمس ،”بأن العمارة عرفها التاريخ وعرفته باعثها الثقافة وديدنها الفلسفة.. تحكي عن الزمان ويعد جزءا منها، ويستحضرها المكان ويغدو ركنا فيها.. صنعها الإنسان وصنعته.. تاقت إليها نفسه، وشغلت لغته جوارحه، فكان جزءا منها، وكانت جزءا منه”، ومن ثم فالتحدي هنا هو البحث عن تلك الذاكرة وحضورها الذي يمثل إضافة لا تعمد إلي الإستنساخ، وحيثيات حضورها هي ما تكسب المبنى حظه في التاريخ لذاته.
أما التحدى الخامس والأخير: فهو نقاء الصورة الذهنية للمسجد في ذاكرة المشاهدين والمستخدمين على المدى القريب في عملية التصميم في ظل إحاطة المسجد بالمباني العالية بصورة عشوائية وألوان متنافرة وفي أغلب الحالات واجهاتها غير مشطبة ، أما على المدى البعيد فتتمثل في مراعاة أسس التصميم البيئي من حيث الإضاءة والتهوية الطبيعية والعزل الصوتي والحراري وآلية الصيانة لجميع أجزاء المبنى داخليا وخارجيا، فكلاهما يضمن نقاء الصورة الذهنية (الراحة البصرية والبيئية) للمشاهدين للمسجد من الخارج والمستعملين له من الداخل.
الفكرة التصميمية:
في إطار مواجهة التحديات الخمسة السابق الإشارة إليها، بدأت عملية التصميم بإستخدام برامج الكمبيـــــوتر لعمل دراسة حجمية للمشروع ( Volumetric study model) أظهرت تلك الدراسة الحجمية ضخامة حجم المشروع لضخامة برنامجه (حيث نحتاج لمبنى إرتفاعه 5 طوابق بإرتفاع إجمالى 26 م بمتوسط إرتفاع للدور 4.5 م، هذا دون أي اعتبار للإضاءة والتهوية الطبيعية)، ومن ثم تم إعادة عمل تلك الدراسة الحجمية بعد إعادة الترتيب الوظيفي للمشروع بحيث لا يعلو صحن المسجد أي أنشطة أخرى وهي من أساسيات تصميم المساجد الجامعة، وأيضا للإستفادة من السقف فى توفير الإضاءة والتهوية الطبيعية، كما أوضحت تلك الدراسة الحجمية أيضا إمكانية وضع مبنى الخدمات الطبية كخلفية للمسجد وبإرتفاع 36م ليشكل ستارة خلفية تحافظ على الصورة البصرية والذهنية للمسجد. وأخيرا ساعدت تلك الدراسات الحجمية في تحديد وترتيب الأهمية الوظيفية والبصرية لقطع الأراضي المستقبلية التى تنوى جمعية المسجد الكبير (المالك) التفاوض بشأن شرائها كإمتداد مستقبلي وبما يناسب التمويل المتاح، حيث اعتمدت الجمعية في أولوية شرائها للأراضي المستقبلية على تلك الدراسة المقدمة من المصمم المعماري لأن شراء الأراضي كان يؤثر في كثير من الأحيان على معدلات تنفيذ المشروع.
قاعة الصلاة (بين السكون والضوء): بدأت الفكرة برفع قاعة الصلاة إلى منسوب الدور الأول لتحقيق الخصوصية والعزلة لتوفير الهدوء المطلوب، واستخدام فتحات ضيقة فى الجدران الخارجية للقاعة، وغلق الحوائط المطلة على الجيران وتوجيه المبنى للسماء لتوفير الإضاءة والتهوية الطبيعية.
السقف واجهة خامسة، وهى تلك النظرة التى فرضها واقع المشروع لينتشر الضوء داخل قاعة الصلاة بأسلوب يحمل في جنباته السكينة والراحة ،حيث تشكل سقف قاعة الصلاة من قبة كبيرة ومجموعة من أنصاف القباب مكسوة بألواح زرقاء من البولي كربونيت النصف شفافة تنشر الضوء الهادئ داخل قاعة الصلاة ، وتحمل هذه القباب ثمانية أعمدة تصميمها مستوحى من شجرة النخيل في ساقها وجريدها حيث تزين ساقها تقسيمات من خطوط مائلة صاعدة لأعلى وتلتلقى هذه الأعمدة بالقباب من خلال مجموعة من العقود وتتخللها الإضاءة العلوية التى تبعث على الراحة والسكينة فتعطي للمصلى إحساسا بأنه موجود في مكان آخر بعيد عن الصخب الموجود بالخارج (وهي محاكاة تجريدية لجذع النخلة وجريدها لإحياء ذاكرة المكان الذي اشتهر بأشجار النخيل ومنها إشتق إسمها). ومن ثم فتصميم المسجد ينبع من الداخل إلى الخارج، كما راعى في تصميم المسجد وأجزائه ألا تكون استنساخا لحقبة ما، بل التأكيد على ضرورة أن يعكس المبنى حضورا وظيفيا وماديا واجتماعيا يمثل إضافة معاصرة تعكس ذاكرة المكان لا تعتمد على الإستنساخ، الأمر الذي جعل لعمارة المسجد ظهيرا شعبيا مؤيدا جارفا من أهالي المنطقة وهو ما أظهرته وسائل التواصل الإجتماعي منذ بدء الصلاة فيه في شهر رمضان / مايو 2017.
النظام الهندسي (Order): إعتمد المصمم في ضبطه لإيقاع هذا الحوار بين التصميم من الداخل والخارج على أداة هندسية مرنة ألا وهي النظام الهندسي المستوحى من الفنون والعمارة الإسلامية. وهذا النظام معروف بإسم النسبة الذهبية في الفنون والعمارة الإسلامية والمأخوذة من المتوالية الهندسية للجذور التربيعية للأرقام ( 1:( 3 ، وهي ليست النسبة الذهبية المتعارف عليها والمأخوذه من العمــــارة الإغريقيــــة ) 1 : 1.6 (، وهى نسبة يغفل عنها كثير من المعماريين المعاصرين في عالمنا الإسلامي، وأكتفوا باستخدامها كوحدات زخرفية فقط فى الزخارف والفنون الإسلامية. وتتمتع هذه النسبة بمرونة هندسية عالية وتوافقها مع النظام الهندسي للمجموعة الشمسية بالإضافة لكونها أساسا للعديد من الأشكال الهندسية الصريحة هذا من ناحية، وتعتبر النسبة الذهبية المعروفة المأخوذة عن العمارة الإغريقية من الناحية الهندسية حالة خاصة من تلك النسبة.