لعلنا نبدأ بالسؤال: لماذا نحتاج مدار فكري جديد لعمارة المساجد؟ أو ربما نصيغ السؤال بشكل آخر: هل نحتاج إلى مدار فكري جديد لعمارة المساجد؟ في حقيقة الأمر مفهوم العمارة بشكل عام متجدد وعبر التاريخ كان هناك مدارات فكرية متعاقبة طورت العمارة ونقلتها نقلات كبيرة، سواء على مستوى الشكل والوظيفة أو على مستويات التقنية وبالتالي نعتقد أن عمارة المسجد يفترض أن لا تخرج عن هذا السياق. من الملاحظ أن عمارة المباني الدينية (في جميع الأديان) تتسم بالمحافظة الشديدة، ويبدو أن الروح الدينية المتشبعة بالحفاظ على الثوابت هي التي تدعم مثل هذا التشدد المعماري، الذي يحرص على “الشكلانية” لا على الوظائف الحقيقية وبالتالي فإن عمارة المسجد ظلت محافظة على لغة بصرية متقاربة خلال الاربعة عشر القرن الأخيرة مع تغيرات طفيفة غالبا ما تمس التفاصيل دون الجوهر البصري للمسجد. فلماذا نعتقد أن هذا الثبات وهذا التشدد المعماري غير مبرر؟ بالطبع ليس المطلوب أن نبحث كل مرة عن شكل جديد، فهذا ليس هدف بحد ذاته لكن ما نهدف إليه هو تحرير المسجد من الصورة الذهنية التاريخية وفتح الباب للإجتهاد في تطوير عمارة المساجد على المستوى الحضري والشكلي والتقني.
المدار الفكري الجديد the New Paradigm الذي نسعى له يحاول أن يفكك “العقدة” التاريخية لعمارة المساجد لكنه لا يحدد ملامح محددة لعمارة المستقبل، وبالتالي نحن أمام تحد كبير يجعل من تصور مسجد المستقبل يمثل حالة فكرية خاصة يفترض أن يساهم في صياغتها معماريو العالم بشكل عام والمعماريين في المنطقة العربية/الإسلامية بشكل خاص. ولعلي الآن أبين ماذا أقصد بالمدار الفكري الجديد: هو مجموعة من التحولات في عملية التفكير في عمارة المسجد تصاحبها تغيرات في التشريعات وفي التصور الحضري لموقع المسجد على مستوى المدينة والحي السكني، إضافة إلى تشكل تجارب تقنية وعلمية جادة تقودها مؤسسات علمية ومهنية ومعماريين أفراد يؤمنون بالحالة الجديدة التي يجب أن تكون عليها عمارة المساجد في المستقبل. كما أنه حالة من الوعي المجتمعي الذي يدفع إلى الوصول إلى أفكار متجددة تخدم الوظائف التي يقوم بها المسجد.
ولكن هل المدار الفكري فقط يختص بالمكون العمراني/التقني أو أن هناك جوانب مهمة وأساسية من أجل تحقيق هذا التحول الفكري. لقد ذكرت أن التحول يجب أن يشمل المجال التشريعي وهذه مسألة يمكن أن نناقشها في المستقبل، فماذا نقصد بالجوانب التشريعية، لأنه يوجد أركان وثوابت في الصلاة لا يمكن الخروج عنها لذلك ما نقصده بالمحتوى التشريعي هو تلك الاجراءات التي عززت من الصورة البصرية المتشددة للمسجد وحبستها فيها وجعلت من صعبت الخروج عنها. الضوابط الشرعية للمسجد لا تدعم شكل معماري محدد وبالتالي يفترض أن المحتوى التشريعي يعزز من المدار الفكري الجديد المرن لعمارة المسجد لأنه لايوجد ما يمنع ذلك.
كما يجب أن يكون المدار الفكري منبع لوعي جديد حول المسجد وعمارته، وهذا الوعي يجب أن يشمل أربع فئات أساسية هي: متخذي القرار وأقصد جميع المؤسسات الحكومية التي تتقاطع مع عمارة المساجد وقد تطرقنا للجوانب الشرعية ويفترض أن المدار الفكري الجديد يعزز من الجوانب المعمارية. الفئة الثانية هي “المتبرعون” الذين يعتبرون أنفسهم ملاك للمساجد، وكثير من هؤلاء لا تهمهم عمارة المسجد وتأثيره الحضري والبصري بقدر ما يهمهم بناء مساجد كبيرة حتى لو كانت ليست ذات كفاءة وظيفية وتقنية فضلا عن المسألة الجمالية، وهؤلاء يجب أن ينخرطوا في المدار الفكري الجديد ويفهموا أبعاد عمارة المسجد في المستقبل. الفئة الثالثة هي المعماريون والمصممون الذين يجب أن يأخذوا عمارة المسجد بجدية لا أن يتعاملوا مع المسجد على أنه صندوق تقام فيه الصلاة. وأخيرا التقنيون والباحثون الذين تقع عليهم مسؤولية تطوير تقنيات تجعل المسجد أكثر كفاءة وأقل كلفة تشغيلية.
أحد المنطلقات التي تجعلنا نفكر في تبني مدار فكري جديد لعمارة المساجد هو إنحسار دور المسجد كبيت لنشأة وتطور الفنون البصرية في الحضارة الإسلامية فعبر القرون لم تتطور النقوش والمقرنصات والتشكيلات الجيومترية والأنظمة الهندسية الانشائية إلا داخل هذا المبنى الرمزي. إسهامات عمارة المساجد كانت أساسية في تطور الفنون البصرية وتقنياتها فلماذا أختفى هذا الدور؟ لن أقول أن المدار الفكري الذي نطمح له هو من أجل استرجاع هذا الدور لكن بكل تأكيد عودة الفنون البصرية وتطورها داخل المسجد هي أحد الأهداف الكبيرة لمسجد المستقبل.