كلما دخلت مسجداً، لا يخلو ذهني من ضجيج أفكاري، الّتي طالما شردت متأملا مساحات المسجد الفراغية و طاقتها المادية ، حينئذ يطرح عقلي عدة تساؤلات، ترى ما هي الثغرة الّتي تخلخل هذا الفراغ العمراني ؟ و ما الّذي يحيل بينه و بين اضفاء شعور أعمق بالتضرع و الخشوع؟ و ما أن يصمت ذاك الضجيج حتى ينكشف لعقلي أن ثمة عنصر معماري مفقود فى هذا الصرح ليواكب روح العصر.
وتأتي تلك التساؤلات من وحي شغفي بالعمارة الدينية، ولا سيما ترددي على الكنائس أثناء دراستي بالخارج لأثر الضوء فى تعميق الإنتماء للعقيدة. كلاهما يسيرا في خطين متوازيين. فالضوء يمثل رمزاً للأمل والسلام؛. و أعني بالضوء الإضاءة الطبيعية، و التى تقابلها الظلمة الليلية، لتبرز وجودها، و تعزز طاقتها الروحانية.
أما عن المساجد، فهى تتسم بالبساطة و لكن! …من واقع زياراتي البحثية للمساجد، أكاد أجزم أنه تم إغفال عنصر الإضاءة الطبيعية إلى حد بعيد، مع استبدالها بكم هائل من نظيرتها من الإنارة الإصطناعية و المتكلفة؛ حتى فى وضح النهار. و ينتج عن ذلك طمس أي معالم لسبات الظلام، و ما يحمله معاش النهارفى شعاعه من ملقن حاث لا يستهان به في أرجاء المساحات الفراغية بالأبنية ذات الطابع الديني. هنا يفقد المسجد رونقه الروحاني و تفقد شعائره لذة الخصوصية، فتشعر وكأنك فى مكتب أو أي فراغ معمارٍ أصم مجرد من المشاعر، فلا يفتن عيناك سوى البذخ فى ترفه ومبالغته .
لازال هناك بصيص من الأمل ينبع من بعض المحاولات للتغلب على هذة الثغرة، فبكل بساطة يمكنك أن تطفىء النور فى ساعات النهار. فهي لا تقتصر على كونها محاولات لترشيد الاستهلاك، بل لاستعادة الروحانية المفقودة بأروقة المساجد. و ربما هذا فقط شطراً من أفكاري، فماذا عن اعادة النظر فى آلية بناء المساجد جزئيا باستخدام مواد مستحدثة؟ فلنضرب مثلاً ما المآذن. فكلمة مأذنة يرجع مرادفها اللغوي فى الإنجليزية (minaret ) إلى اللفظة العربية “منارة”؛ و تعني ذلك البرج الِّذي يقع بالقرب من الميناء بهدف الإنارة ليلاً لإرشاد السفن والّتي يشار إليها بالإنجليزية ب (lighthouse ) . فلما لا نستولد من هذا الإلتباس اللغوي فكرة المآذن المضيئة؟
و من حسن الحظ، أصبح السوق غنياً بمواد البناء الحديثة، كالخرسانة الشفافة أو الموصلة للضوء. فلتطلق لخيالك العنان .. وأنظر إلى تلك المنارات المتلألئةً فى ظلام السماء الدامس على قمم المساجد، لترشد كل عابر إلى الطريق الصحيح . تأمل ذلك من خر راكعاً وسط أشعة الشمس فى النهار. فلعلها تبعث شعوراً بروحانية المكان و تربط قلوبا ً بالإيمان . فقد أصبح بيت الله سراجاً منيراً أناء الليل و أطراف النهار. فلن يعد يشق علينا الإرتقاء بعمارة المساجد إلى أحدث عصور التصميم ، للإبقاء على العبق الروحاني لأزهى عصور التاريخ. فلن يكلفنا ذلك إلا الاستفادة من الإضاءة الطبيعية كعنصر أساسي فى عمارة المساجد.